يا من حملكم ولي الأمر الأمانة فأبدعتم منها للمواطن سبلاً في الإهانة، لا نسألكم الرفق ببغلة عثرت في جازان، بل الرحمة بالإنسان في أي مكان كان، مما تؤكده نظم بلادنا التي اختارت شرع الله حكماً لقوم يعقلون، لأنه الضمانة لكرامة الإنسان، ففيه السعادة وفيه العدالة، ومنه يكون غنى النفس، وتحت مظلته يستوي الكل، وفي كنفه لن يصيب أحداً عوز لأنه جزء لجسد واحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، وهذا ما قرره القرآن قبل أكثر من ألف وخمسمائة عام، حين قال:"ولقد كرمنا بني آدم"واليوم يفطن له حقوقيون متأخرون. إن مجتمعنا المسلم دائماً في عافية، فأفراده في حماية القوي العزيز: ضالهم يهدى، ومجرمهم يكبح، ومريضهم يواسى، وصغيرهم يرحم، وكبيرهم يوقر، وعالمهم يجل، وجاهلهم يعلم، ولا أحد ينسى أو يهمش لأنه ضمن جسد واحد، أفتضن على عضو منك بالدواء أو تمنعه شربة ماء، فكيف إذاً ظهرت حالة بلقيس بيننا، أهذا يعني أن لدينا بلقيسات أخر وبائسين وبائسات لا نعلمهم، ومحرومين ومعذبين لم يُكشف الستار عنهم بعد؟ مشكلتنا أننا نصرخ ونصيح يا ويلنا يا ثبورنا يا عاثر حظنا، حين نرى حالة سيئة ستجعل نومنا مزعجاً تلك الليلة، وننسى الأمر بعد ذلك ولا نبحث عن مسبباته، ولا كيف نتلافى حالات أخرى على شاكلته، مدرس يضرب تلميذه، وطالب يعتدي على أستاذه، وأب يهين ابنه، وابن عاق لوالديه، وزوج يعامل الآخر بعنف... وكثيرة حالات التشنج في وسطنا الاجتماعي، وليس من حلول، لا الدين نلتزمه ولا النظام يلزمنا، وغرنا ما نحن فيه من أمن والحمد لله، فكيف نديمه - إن شاء الله - إلا بشكر نعمه واحترام حقوق بعضنا البعض التي مرتكزها قوله صلى الله عليه وسلم:"من أصبح آمناً في سربه معافى في جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها"، وما لم نرع هذه الحقوق فحري أن تتقوض خيمتنا! من هذه الحقوق حقوق الفرد في عبادة خالقه، ملتزماً بأوامره مجتنباً نواهيه، لأنها أساس سعادة الإنسان وضابطه نحو حضارة راقية بعيدة عن البهيمية،"فإن الله حرم دماءكم وأموالكم وأعراضكم إلا بحقه"، لهذا حرمت الأعمال التي تنتكس بالإنسان إلى حضيض الحيوانية، ودعي إلى ما يعلو به إلى الشرف وطهر العمل، ولن يتأتى هذا إلاّ بتأمين القاعدة الخصبة لهذه الحقوق كحق الابن في أم وأب صالحين، ورضاعة وتربية قويمة وتعليم صحيح، وحق الأبوين في البر، وحق الزواج واختيار الآخر وحسن العشرة، وحق حفظ العقل والقلب والجوارح بما يغذيها ويبقيها في أمان مؤدية لوظيفتها، وحق الإرث، وحق التملك والحرية الاقتصادية، فلا احتكار للأسواق ولا للأراضي وشواطئ البحار ولا للمستشفيات وما هو خارج البنيان كالضواحي والمنتزهات والحدائق، وكذلك حق التعبير فهو ضمانة لتسير القافلة في طريقها الآمن المستقيم، فإن حادت نبهها الدليل نحو الماء وحذرها الهلكة. وتبرز حقوق الجماعة في حق التحاكم إلى شرع الله الذي هو صمام الأمان لعموم الإنسان مسلماً كان أو غيره"يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول"، فتحت ظل شرع الله لن يحس أحد بالضيم أو يعزل عن حقوقه بالحيف، بل الكل متساوون في الحقوق كما أنهم سواء في الواجبات، وللجماعة التمتع بالمال العام في ما يعود عليهم بالنفع على السواء، وهذا مراد الآية الكريمة"ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل"... وحتى المال الخاص له ضوابطه التي تمنع استعماله في ما هو حرام أو ضار أو آتياً بغش واحتيال أو محتكر من دون مستحقه، كما أن الكل له الحق في الاستفادة من ماله مع تقيده في حدود ما لا يعود على الآخرين بالضرر، فلا ضر ولا ضرار وإنما هو مال الله ينفق في ما أحل الله، من دون تخطي حق السائل والمحروم فيه أو ترك أداء الزكاة منه. وما المجتمع السوي إلا البناء المتراص اللبنات الحصين بإيمان أفراده وسمو أهدافهم وتوجهها نحو خير بعضهم، فالمساواة بينهم تجعلهم متحابين لا فروق بينهم إلاّ من زكى بإيمانه وعلمه"إن أكرمكم عند الله أتقاكم"، لكنهم في الحقوق متحدون فلا يعيش واحدهم في برج عاجي والآخر يتلظى على الرصيف عارياً، إذ التكافل بينهم ينعش وضيعهم ويأخذ بيد فقيرهم، فلا يكون بينهم عائل أو محتاج ولا مريض ولا جاهل لأنهم سيجدون قلوباً رحيمة وقوانين اجتماعية ومغريات ربانية تنتشلهم من أحوالهم السيئة، إن بالحسنات المرجوة بالصدقات أو حقهم في الزكاة المفروضة التي تؤخذ من أغنياء المجتمع فترد على فقرائه وهي كافية لإصلاح الأوضاع، ولدينا والحمد لله أرقى أساليب الحب والمودة لبعضنا سواء كان ذلك بالتناصح أو بالموعظة والكلمة الحسنة، وهي لبنات الذهب في المجتمع المسلم. كما أن المجتمع الصالح هو الذي يقوم كل أفراده بواجبهم نحو أسرهم وفي أموالهم وأمانة أعمالهم، ف"كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته"وعندئذ لن تجد خللاً في كيان صالح، وإنما ستجد الحب والوئام وطيب الثمار يعم المجتمع السوي الذي ليس فيه حلقات تحتكر النفع وتطرد عنه غيرها، وإنما هو شراكة في المرعى والظل والماء والدواء. ف"الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر"... هم مجتمع الخير الذي في حضنه نجد صلاح النفس وتكافل الكل وشفافية الأوضاع، ذو الأساسيات المتوافرة للجميع من دون أن يختص بها فريق أو يسعى لها الضعيف عمره فيموت دونها، وتصل غيره في قوالب من ذهب وإنما يفترض أن تكون جاهزة يحصل عليها مستحقها مباشرة من دون إراقة دم وجهه أو تعرضه لكلفة أو مهانة، وأن يفعل"متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً". ولن نحقق هذه الأساسيات إلا بالإخلاص لله وجعلها أهدافاً تنجز في مدة معينة، وأن تكون المحاسبة لكل مقصر، وتعلن الشفافية ويعمل الإعلام الحر الملتزم، وما نريده من هيئات وجمعيات حقوق الإنسان ليس صورهم في الجرائد بل العمل على أن يشمل الجميع عيش الكفاف الكريم من دون تفرقة أو انتقاص للحقوق أو دس لها في الأدراج وجيوب المقربين، وأن يتابع ذلك على المستوى العام وليس التباهي بحالات فردية تصله عبر شكوى لمدفون وهم مسترخون على أرائكهم يعلكون الحكي واللبان. عذراً بلقيس فليس أبوك وزوجته هما المذنبان، فكلنا في حقك مذنبون، فقد كان همنا ذلك اليوم أن ننجز بسرعة صك طلاق أمك، ونختمه بعشرة أختام لنضيفه إلى سلسلة المطلقين، ولم يكن همنا أن نسأل عنك أين ستقيمين، وكيف ستعيشين، وفي كنف من ستكونين حتى مدرستك لم نزرها ولم ننظر في دفتر واجباتك، أو نسأل من اشترى لك ثوب العيد، فلقد شغلنا عنك بتسجيل أمثالك الذين حولناهم إلى أقسام المخدرات وعنابر السجون، أليس هذا إنجازاً؟! [email protected]