إن المتأمل في نصوص الشريعة الإسلامية القرآنية والحديثية يقف على حقيقة شرعية مجمع عليها وهي الأمر بطلب العلم والحض على تحصيله، ولقد سئل الإمام مالك رحمه الله عن طلب العلم ، أفرضٌ هو؟ فقال: (أمَّا على كلِّ الناس فلا) أي أن طلب العلم فرضٌ من فروض الكفايات التي يلزم المسلمين أن يطلبوها، بحيث لو قصَّروا في طلبها أثموا جميعاً، وإذا قام بها بعضهم سقط الإثم عن الجميع، ويُستثنى من ذلك ما لا يَسَعُ الإنسانَ جَهْلُهُ، مثلَ صفةِ الوضوء، وصفةِ الصلاة، وصفة الصوم، وكذلك صفة الزكاة، إن كان ممن تجب عليه الزكاة، بخلاف الفقير، فلا يجبُ عليه تعلُّمُ أحكام الزكاة، فإنْ تَوَفَّر عنده نقدٌ، وَجب عليه تعلُّم أحكام زكاة النقدين، وإن صارَ عنده إبلٌ وَجبَ عليه معرفة أحكام زكاة الإبل، وكذلك مَن كان إماماً أو خطيباً، وَجبَ عليه معرفةَ أحكام الإمامة والخطابة، وعليه فكلُّ صاحب صَنْعةٍ، يجبُ عليه إتقانُ صَنعتِه فيها، ليؤدِّيها على أكمل حالٍ وأتمِّه، يبيِّنُ ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (إنَّ الله يحب إذا عملَ أحدُكم عملاً أنْ يُتْقِنَهُ) وقوله في الحديث الآخر: (إن الله كتب الاحسان على كلِّ شيء) وهذا شاملٌ لجميع الأمور دقيقِها وجليلِها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: (إذا كَفَّنَ أحدُكُمْ أخاهُ فَلْيُحْسِنْ كَفَنَهُ) ومن بديع ما يُروى عن البُهلول بن عَمْرٍو الصَّيرفيِّ أنه قال للخليفة هارون الرشيد: يا أمير المؤمنين كيف لو أقامكَ اللهُ بين يديه فسألك عن النقير والفتيل والقطمير؟ فخَنَقَتْ الرشيدَ العبرةُ، فقال الحاجب: حسبُك يا بُهلول، قد أوجعتَ أميرَ المؤمنين، فقال الرشيدُ: دَعْهُ، فقال بُهلول : إنما أفسدَهُ أنت وأضرابُك) ثم إن تعلُّمَ العلوم التي لا يُستغنَى عنها في أمور الدنيا، واجبٌ كفائيٌّ على الأمَّة، قال تعالى «وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» والدعوة إلى الخير لا تكون إلا ممن درسَ الخير وعَلِمَه فأَمْكَنَه أن يدعوَ إليه، قال سُحنون بن سعيد التَّنوخي رحمه الله تعليقاً على هذه الآية الكريمة: (مَن كان أهلاً لِتَقَلُّد العلوم ففرضٌ عليه أن يطلُبَها) فطلبُ العلم واجبٌ قبل العمل، بإجماع العلماء، فمن عملَ بجهلٍ، فقد أفسد الحرث والنسل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِى الدِّينِ) ويحسن بي أن أذكر ما رواه الإمام مالكٌ عن سيدنا عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: (كُونوا للعِلْم رُعَاةً، لا تكونوا له رُوَاةً) فالعلم النافع هو ما سبقه العلمُ، وسبقتْهُ الخشية للقلب، فَسَكَنَه الخُلق، وظهر فيه الحياء، وهذا المعنى دلَّ عليه قول سيدنا عبد الله بن مسعود أيضاً وهو يخاطب بعض الناس: ( إنك في زمان كثيرٌ فقهاؤه قليل قراؤه، قليلٌ من يسأل، كثيرٌ من يُعطي يبدؤون أعمالَهم قبل أهوائهم، وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه كثيرٌ قراؤه، تحفظ فيه حروف القرآن وتضيَّع حدوده، كثيرٌ من يسأل قليل من يعطي، يبدؤون فيه أهواءَهم قبل أعمالهم ) ولمْ يُرد بذلك أنَّ من يقرأ القرآن كان قليلا في زمانه، وإنما أراد أنَّ الصحابة الكرام كانوا يفقهون كلام الله تعالى، فلم يكن حظُّهم منه قراءَته دون الفقه فيه، ولذلك تَكون أعمالُهم موافقةً لشرع الله، وليستْ تابعةً لأهوائهم، بخلاف مَن قلَّ فقهُهُ وقلَّ وَرَعُه، فهؤلاء قال عنهم أبو الوليد الباجي رحمه الله : (إذا عَرَضَ لهم هوىً وعملٌ، بدؤوا بعَمَلِ الهوى) وهذا المعنى نجده واضحاً وجليّاً فيما تعيشه العراق والشام، من ثلَّةٍ من الشباب الأغرار الذين أقدَموا على أعمالٍ لَمْ يَعلَموا حُكم الله فيها، فتلاعبتْ بهم أهواؤهم، فكانوا أبعدَ الناس عن هَدْيِ النبوَّة، فاستباحوا الحُرُمات بأخلاق السُّفهاء، فرضي الله عن سيدنا عبد الله بن العباس، في قولِه واصفاً الرَّعيل الأوَّل الذين تخلَّقوا بأخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم: حلماءُ فقهاء.