لا يختلف اثنان أن القيادة السعودية لم تقبل بانعقاد القمة العربية في الرياض إلا ولديها القدرة على تهيئة كل الظروف الملائمة لإنجاحها. والمتابع لكل ما يجري في الوطن العربي يلمس هذا التفاؤل لدى كل الأطراف العربية وثقتهم بقدرة هذه القيادة على تذليل الصعاب التي يمكن أن تعيق الاتفاق على طرح رؤية مشتركة للنظام العربي يخرجه من حال الشلل التي يعيشها منذ أكثر من عقدين، وانسحاب هذا النظام في حال تفككه من دور الفعل إلى دور المتفرج بحيث أصبحت تعصف به المخاطر من كل جهة, وبدلاً من أن يكون الخطر اليهودي المصدر الوحيد الذي يهدد تقدم المجتمعات العربية واستقرارها, وصلت الحال بهذا النظام إلى درجة تهدد وجوده الحضاري, وأصبحت ملامح التجزئة والاقتتال الداخلي تأخذ أشكالاً مختلفة من دينية وطائفية ومذهبية وعرقية, منها ما هو ظاهر في العراق ولبنان وفلسطين والسودان والصومال, ومنها ما هو مستتر في بلدان عربية أخرى، قد ينفجر في اللحظة المواتية. ربما لا نريد أن ندخل في تفاصيل كل دولة على حدة, ابتداءً من أقصى جنوب الوطن العربي إلى بعض دول خليجية, مروراً بسورية ومصر وانتهاءً بالشمال الأفريقي من إذكاء الصراع بين الحوثي وأتباعه مع الحكومة المركزية في اليمن والمعارضة الدينية والأقليات في سورية، والفتنة القبطية الإسلامية في مصر والامازيغية في شمال أفريقيا وحتى نحن السعوديين نعاني من آفة الإرهاب، ليس لأن لدينا مشكلات عرقية أو طائفية, فالجبهة الداخلية متجانسة ومتماسكة بحكم تركيبتنا، ولكن الإرهاب لدينا يبرر له من منظرين بالأوضاع العربية وبقضية الصراع العربي الصهيوني تحديداً. فالقضايا العربية مهما حاول الإنسان أن يبتعد عنها تبقى جزءاً من وجدانه ولا يستطيع الانفكاك منها مهما حاول ذلك، وحتى من يريدون أن يعملوا على إقامة تنمية اقتصادية وبشرية مستدامة لا يستطيعون أن يطمئنوا إلى إمكان تحقيق ذلك وسط محيط إقليمي ملتهب. صحيح انه بقدر ما هناك صعوبة في فصل المحلي عن الإقليمي والعالمي في هيمنة "العولمة"، حتى ولو كان النظر إلى العولمة على أنها مرحلة من مراحل تطور الرأسمالية وأنها مجرد آلية متقدمة من آليات اقتصاد السوق. عندما بدأ الملك عبدالله مشروعه الإصلاحي, وهو في حقيقة الأمر اكبر من مجرد مشروع إصلاحي, فهو مشروع "نهضوي" يعتمد بالدرجة الأولى على الاستثمار في الإنسان بكل الجوانب، خصوصاً ما يتعلق بالإنفاق الضخم على موازنات التعليم وابتعاث الشباب والشابات إلى شتى بقاع الأرض وبأعداد كبيرة جداً، وبناء المدن الاقتصادية العملاقة في مناطق مختلفة من المملكة. كل هذه لن نحصل على نتائجها الملموسة والفعلية إلا بعد فترة من الزمن وهذا ما يجعل إطلاق المشروع النهضوي أكثر دقة من المشروع الإصلاحي. أدرك أن هناك جانباً آخر لا يقل أهمية عن الوضع المحلي وهو إصلاح الوضع العربي, فالملك عبدالله بدأ من الداخل لأنه يعتقد أن الاثنين الإصلاح المحلي والعربي يجب أن يسيرا جنباً إلى جنب، ففي اجتماع مجلس الوزراء يوم الاثنين 6 آذار مارس، أكد أن سياق المملكة تجاه العالم تنطلق من قناعات راسخة تتجسد في العمل من أجل ترابط الوطن العربي وترسيخ الهوية العربية, والسعي إلى توثيق لحمة الأمة الإسلامية والتفاهم بين المذاهب. وأكد خادم الحرمين الشريفين في مجلس الوزراء على تطلعاته إلى أن القمة "تنقل الوطن والشعب العربي إلى مرحلة تكرس للتنمية والإصلاح والتكامل الاقتصادي". فنحن بكل تأكيد أمام قمة استثنائية بكل معنى الكلمة, إذ إن القمة ستعمل على توحيد نظرة الدول العربية إلى قضاياها من منطلقات واضحة لحل مشكلاتها الداخلية, وهذا ما حصل بين الفرقاء الفلسطينيين من حركتي "فتح وحماس", وهذا ما تسعى المملكة جاهدة لإيجاد صيغة توافقية بين الأطراف اللبنانية على قاعدة "لا غالب ولا مغلوب"، فيكون المواطن اللبناني فيه منتصراً. المبدأ نفسه ينطبق على العراق وعلى السودان وعلى الصومال, فالكل هنا يطلب تدخل القيادة السعودية بصفتها طرفاً نزيهاً يهمه مصلحة الأمة العربية, بعيداً من المكاسب السياسية والإعلامية الضيقة, فالحكومة السعودية ليست لها مطامع إقليمية لتحرك هذه الفئة ضد تلك، وعلى هذا الأساس فالكل يطلب مساعدتها، وقوة الجميع، بالتحليل النهائي، قوة لها. إن إحياء أحلام الإمبراطورية القادمة من الشرق حتى ولو لم تكن خطراً على افتراض حسن النوايا, فإن المنطق أن تنهض قوة أخرى متفوقة عليها, وهذا لا يأتي إلا من بذل كل الجهود لصياغة نظام عربي جديد يشمل كل الدول والقوى الفاعلة في الوطن العربي من اجل نهوض هذه المجتمعات والابتعاد بها عن الفتن الداخلية على أساس من العدالة الاجتماعية, وترسيخ مفهوم المواطنة الذي يحتوي الجميع ولا يستبعد أحداً، فالأوطان ليست تركة تتحول فتاتاً تتقاسمه الفئات المتصارعة من أجل مكاسب فئوية ضيقة سواء مذهبية او عرقية او دينية. الأوطان يجب أن يذوب فيها الجميع من اجل الجميع, وان تكرس طاقات الأمة للتصدي لأعداء الأمة. إمكانات الأمة يجب أن تكرس لأبنائها من اجل بناء أوطان قادرة على الحفاظ على كرامة مواطنيها وحماية حقوقهم, وان يكون لهذه الأمة على الأقل دور في صناعة تاريخها إن لم يكن الإسهام في صناعة التاريخ الإنساني المشترك. إن الآمال المعقودة على هذه القمة في أن تفتح ملفات التكامل الاقتصادي والسوق العربية المشتركة, إضافة إلى الموقف الموحد من قضية الصراع العربي الصهيوني، ومن مشاريع تقسيم العراق وحل الخلافات اللبنانية وإرجاع سورية إلى محيطها العربي، وتهميش الأصوات الناشزة في الوطن العربي, سواء جاءت من خليجنا العربي أو شمالنا الأفريقي, فالمسؤولية تقع على الدول الفاعلة في النظام العربي وليست على الدول الهامشية التي تسعى إلى لعب أدوار أكبر من حجمها عن طريق "خالف تعرف". وكما قال المتنبي: على قدر أهل العزم تأتي العزائم ... وتأتي على قدر الكرام المكارم * أكاديمي سعودي.