الانقراض لا يشمل فقط الديناصورات وبعض القوارض، وإنما له صلة بشكل التفكير. قيمة الحياة في تجددها. ما من نموذجٍ فكري يمكن أن يُدّعى أنه الحقيق بالاحتذاء، غير أن ثمة صيغاً فكرية يمكنها أن تكون عامل تجددٍ لدى الإنسان في حياته. كما أن الانقراض لا يعني الانتهاء والاختفاء، بل ربما تواجد الإنسان المنقرض بكثافة من خلال أدوات الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، لكنه يظهر ليكرس انقراضه، بمعنى أنه مع مرور الوقت يزداد انقراضاً واختفاءً على المستوى الوجودي، حتى وإن حضر مادياً من خلال شكله ووجهه ولبسه وانتفاخ أوداجه. من هنا فإن الانقراض الوجودي أكبر الأخطار التي تهدد الإنسان المتوقف فكرياً. الذي سلّم كل أدوات حياته لمتطلبات الانقراض. الكائن المنقرض، ذلك الذي يجمع رؤيته للحياة والعصر والزمن من خلال سدنة هياكل الوهم. هذا هو الكائن المنقرض. يصر المنقرض على كثافة الظهور محاولاً إقناع الآخرين بضرورة التوقف عن الركض باتجاه الحياة والعالم. يحرضهم على مشاكلته عبر الأخذ بأسباب الانقراض. إن شكل المنقرض ومواصفاته تتجلى في ذلك الرابض في مكانه الفكري، ذلك الذي لم تتزحزح لديه قناعة واحدة منذ 20 سنة. والمشكلة ليست في القناعات التي يتخذها، وإنما في كون تلك القناعات عصيّة على التطور، إذ تخلقت من ضمن مادة صلبة لا يمكن زحزحتها أو التعامل معها. استخدموا أحدث أدوات العصر لضرب العصر، واتجهوا لأحدث المنجزات لضرب أصحاب المنجزات وهذه من المفارقات العجيبة التي لا يمكن إلا أن تكون ضمن تشخيص مكثف من دراسات اجتماعية شاملة. إنهم يعيشون أدوات العصر لكنهم لا يعيشون علومه، إذ لا تربطهم بفكرة المنتج أي حميمية أو اطلاع، بل يكتفون بتداول المنتجات استهلاكياً لأغراضهم الأيديولوجية الرتيبة التي لا تقدم شيئاً ولا تغير شيئاً، بل تضر إذ تنشر الرتابة، وتكرس الركود، وتحرس الهشاشة، وتؤمّن كل أسباب الانقراض الوجودي. إن انتقال طرحهم المعتاد من الواقع إلى «اليوتيوب» لا يدل على الأخذ بأسباب الخروج من أنفاق الانقراض، بل على الأخذ بالأدوات الحديثة لتكريسه. وأول أساليب الخروج من هذه الرتابة أن توجه صدمات الأسئلة بكل مباغتاتها ومفاجآتها. إن الكائن المنقرض الذي يحاول جاهداً أن يطرح نفسه كمؤثر في هذا الزمن يفشل باستمرار، لأن الإجابات التي يحاول بكل ما أوتي من قوة نشرها لا يمكنها أن تمنح الناس فرصة العيش. أولئك المهاجرون من كراسيهم في الواقع إلى عالم «اليوتيوب» الافتراضي إنما يهاجرون مع أدوات العصر لا مع العصر. من أبرز الصفات التي يتمتع بها الإنسان المنقرض وجودياً، أن تراه متبختراً بكل منجزات العصر، وأن تجده منساقاً وراء حالات استهلاكية مرضية، بحيث يتمتّع بكل المنجزات العلمية، ثم ما إن يستخدمها إلا ويحاربها من خلالها، وهذه الخصلة جاءت من عمق العقل المتوقف لدى هذا الكائن العجيب، إذ ما إن يقتني هذا المنجز إلا ويستخدمه لأغراضه الشخصية، ويستخدمه لضرب المنتجين له من خلال الحرب على العلم التي هي بالضرورة حرب على المستقبل والعالم. حتى يحرس الإنسان نفسه من أسباب الانقراض، عليه أن يتحرك باستمرار، وألا يرتهن للكلمات القديمة الرتيبة، وأن يتصالح مع العصر من خلال دراسة أسباب هذه الثورة العلمية التي نعيشها في كل المجالات، وحين يأخذ الإنسان صيغه الفكرية المستقلة يتجاوز فجوةً مأسوية بين الإنسان وعصره، وهي فجوة تُعاش من الكثيرين بكل أسى. [email protected] twitter | @shoqiran