قوة مفهوم «الثقافة» أنه عصيّ على التعريف، على الرغم من محاولات مستميتة بذلت لغرض تعريفه أو مقاربة معناه، لكنه بقي المفهوم الدال من دون تعريف، تبع لغط تعريف «الثقافة» إشكالية تعريف «المثقف» نفسه، هل هو الكائن الثرثار الذي يتحدث عن الحقوق والخلاصيات والتباشير، أم هو «الإنسان الواعي المتمسّك بضوابط المكان الذي يعيش فيه» على حدّ تعبير هيغل؟ أما جدل الدور الذي يمكن أن يلعبه المثقف فقد برز مع نشوء النظريات الحديثة التي تتعامل مع النظريات الفلسفية «كصور إمتاعية، وأنشطة ذهنية ليس من الضروري أن ترتبط بالتغيير» كما هو حديث جيل دلوز في حواره مع ميشيل فوكو بالذات. في سيرة «عمانويل كانط» تعثر على رجل لم يكن مجرد كاتبٍ لفلسفة بل كان يعيش فلسفته، كانت كل حركاته تعبّر عن معاني نظرياته الفلسفية، كان يأكل أكلاً صحياً، ويمارس الرياضة بشكل يومي، وكان يخصص جلسة يومية مع أصدقائه، ويستمع إلى الموسيقى، كان يومه مجدولاً منظّماً وسيرته آسرة لا يمكن لمن قرأها إلا أن يصاب بالذهول، وهيغل يلحّ دائماً على أن المهم ليس الحديث عن الفلسفة وإنما أن نعيش بأساليب فلسفية أن نعيش فلسفاتنا، لهذا لم تكن الفلسفة ومن ورائها الثقافة مجرد ثرثرة عقيمة، وإنما هي «النسك المثقف» أن يتمثل المثقف ما يعلمه، وأن يعيش وعيه ممارساً ما قرأه ودرسه وتشرّبه من قناعات وأفكار، وما أندر الذين يعيشون ما يطالبون به في مقالاتهم وكتاباتهم وأفكارهم ويلحّون على الناس والمجتمعات بمطالبات لا يمكن لهم تطبيق ربعها حتى. يشغب المثقف على كل القراء أنهم متخلفون، وأن المجتمعات تعيش حالة الانحطاط، والمثقف يطالب الناس بأن يلتزموا بالصدق والحب والتسامح، وأن يترك الناس التصنيف والغيبة والنميمة، وأن يحافظوا على التعايش مع المخالف، لكن الأغلبية الساحقة من الذين يجلدون المجتمعات بزواياهم وكتاباتهم يخفقون في كل ما يطالبون به، بل لا أبالغ إن قلت إن من يصفهم المثقف عادةً ب «العوام» يمارسون «النسك الثقافي» أكثر من المثقف نفسه، ولا تسألوا عن الشلل والنزاعات والمعارك، حينها نعلم أن المثقف العربي في الغالب مجرد «كائن ثرثار» أصبحت الصحافة له مثل الضمان الاجتماعي. قرأنا عن المثقف الغربي وممارسته ل «الموقف» أن يمارس المثقف مواقفه المدنية بعيداً عن التأجيج والتثوير، أن يحرس إنجازات الفكر والثقافة، والصحافة الإيطالية ذكرت في الثاني من (أيلول) سبتمبر الجاري أن مثقفين إيطاليين، وعلى رأسهم الفيلسوف «أمبيرتو إيكو» وصاحب جائزة نوبل للأدب «داريو فو» في جمع التوقيعات ضد محاولة رئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو برلسكوني إخراس أصوات الصحافة الإيطالية والأوروبية، فهم بهذا لا يقومون بممارسة التواقيع لغرض تأجيج الشعارات وإنما لحماية المنجز الفكري والحضاري والفلسفي. هل يمكن للمثقف العربي الطارئ أن يتحرر من عبء ذاته، وأن يجرّ نفسه من مشهد مسرحي مخزٍ قوامه التهزيء الممض لشعوب هي أكثر حضارةً منه، أن ينأى بنفسه عن الشغب اللفظي المزعج، اللفظ الذي ملّ الناس من تكراره وسماعه، وأن يبدأ من جديد بتثقيف ذاته سلوكياً، أن يعرف أن الثقافة هي «النسك» الذاتي، المتمثل في تطوير الذوق الفني والجمالي، وتطوير السلوك واللباس، وتطوير معاني العيش، بدلاً من الانحباس في غرفة بأربعة جدران وإرسال الواجبات الاجتماعية إلى الناس عبر الصحف والإعلام، إن فشل المثقف في التزامه بما يطالب به يبرهن على أن الثقافة ليست ثرثرة خاوية، وإنما صيغة للحياة، إن الثقافة ليست إخراج الفكر من قوقعته، وإنما أيضاً إخراج الجسد واللباس والشكل من الرتابة والتقليد، حينها يكون المثقف مثقفاً حتى وإن لم يطالب بكل الشعارات الرنانة والطنانة. [email protected]