خص الله الأنثى بدور مميز في هذا الوجود لا يضطلع به سواها، فالإنسان لا تكتب له الحياة إلا بعد خروجه من رحم أمه، هذا هو الدور المقدس الذي شرف الله به المرأة منذ بدء الخليقة وسيستمر إلى ما شاء الله، والذي هيأ له الله سبحانه في تكوين المرأة كل العناصر الفسيولوجية والبيولوجية التي تمكنها من أدائه. ومع تغير الأنماط المعيشية وظروف الزمن استجدت بعض الأدوار، فاليوم اختلف نمط المعيشة عما هو في السابق، فلم تعد المرأة تحصر نشاطها بين أسوار المنزل بل لجأت لأدوار أخرى كانت مقصورة على الرجال، بينما هي اليوم متاحة للجميع، أدى إلى ذلك انتشار التعليم حتى أصبح جزءاً لا يتجزأ من حياة الشريحة الأكبر من الفتيات بعد أن أثبتن فيه تفوقاً ملاحظاً، إضافة إلى مرحلة العمل والوظيفة التي تليه. وإذا أردنا أن نبحث في الجذور التاريخية لهذا التغيير، نجد أن الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر الميلادي كانت شرارة التوجه نحو توسيع مجالات عمل المرأة بشكل مكثف، وآثار هذه المرحلة لم تقتصر على الغرب، بل كان لها تأثير كبير على وضع المرأة في العالم ككل، وفي تغيير نظرة المجتمعات للإنسان بشكل عام وللمرأة بشكل خاص، إذ كان الجانب الاقتصادي العامل المحوري الذي يتحكم في تشكيل ثقافات جديدة وتأويل القديمة منها بما يتناسب ومستجدات تلك المرحلة، وكان من بين الأمور التي تغيرت دور المرأة الذي لم يعد مقصوراً على الإنجاب ورعاية المنزل، فقد أصبحت بالنسبة لمنظري هذه المرحلة كائناً استثمارياً مربحاً من الدرجة الأولى، كونها عمالة رخيصة الأجور لقلة خبرتها وحاجتها الماسة ولتعرضها للظلم الاجتماعي، فكان العمل في القطاع الصناعي متنفساً جيداً لها ونقلة من حال العزلة، التي فرضت عليها داخل المنزل، للنزول إلى قلب الحدث، وعلى رغم ذلك أعتقد بأن هذا التغيير لم يكن نابعاً من ذات المرأة ولم يكن إفرازاً طبيعياً للممارسات السلبية التي كانت موجودة قبل هذه الحقبة بقرون، بل إنه كان وليد الظروف الاقتصادية التي شكلتها العديد من العوامل الأخرى. وبغض النظر عن الجذور التاريخية لهذا التغيير وما لها من سلبيات أو إيجابيات، فاليوم نجد أن المرأة أصبحت عنصراً مهماً في كثير من المجالات، فاختلفت ثقافة دور المرأة عما كانت عليه، فأصبح ينتظر منها أن تتفوق في الدراسة إلى جانب أعمال المنزل، وفي العمل الوظيفي إلى جانب رعاية أبنائها، وليس الاقتصار على جانب واحد يتمثل في شؤون المنزل فقط، وهو ما كان سابقاً المعيار الأساس للمفاضلة بين النساء، بل ينتظر منها إلى جانب ذلك أن تكون عنصراً فاعلاً في مختلف شؤون الحياة العلمية والعملية، وعنصراً تنموياً في بناء منظومة حياة متكاملة. إحدى نتائج هذا التغير الثقافي في فهم دور المرأة"أنها أصبحت تعاني صراعاً داخلياً حول مفهوم تحقيق ذاتها، صراعاً بين تحقيق ذاتها بتكوين الأسرة، وهو الأمر النابع من فطرتها والمنسجم مع تكوينها، وصراع بين تحقيق ذاتها عن طريق نجاحها العلمي والعملي، وهو الأمر الذي يفرضه إيقاع الحياة المعاصر، وكثيراً ما ينفرد أحد هذين الطرفين بدفة الاهتمام من دون سواه، أو تتم المهادنة بينهما على نحو قد لا يفي بهما، وعلى رغم أن هناك عدداً من النساء استفدن من هذا التغير الثقافي في فهم دور المرأة، وحصّلن كثيراً من الفوائد على المستوى الشخصي، خصوصاً في ما يتعلق بالتعليم الذي أوجد للمرأة مساحة رحبة لإدراك العالم وفهمه بصورة أوضح، وزاد من رصيد المرأة الثقافي والتنموي، فهناك العديد من المشاريع التنموية والعلمية والإنسانية التي تصدرت لها النساء، كل بحسب ثقافتها وإدراكها، فحملن راية تحسين مجتمعاتهن والنهوض بها نحو الأفضل، إلا أنني أعتقد بأن الشريحة الأكبر تنتظر معرفة مدى إنصاف هذا التغيير لهن، ومدى تحقيقه لذواتهن ليس على مستوى النجاح الشخصي فحسب، بل على المستوى الذي لا يغفل علاقة المرأة بتكوين المجتمع"العلاقة التي تشبه الأطناب التي لا تقوم الحياة من دونها، فهل هذا التغيير مفيد في جوهره، أم أنه استهلاك لها وتحميلها فوق طاقتها؟... أعتقد أن نظرة في أحوال الأسرة اليوم تحمل الإجابة الشافية. [email protected]