هكذا علماه... وهكذا ربياه... يجب أن تكون الأفضل، ويجب أن تحصل على الأفضل مهما كلف الأمر، اهتم بنفسك وبمستقبلك أولاً وأخيراً، فأنت المهم ومن بعدك الطوفان، هكذا تربى والداه، وبالطريقة نفسها ربياه، شب وقد طُمست كل المشاعر الطيبة والأحاسيس الجميلة في نفسه، قضى على روابط المحبة التي يمكن أن تربطه بمن حوله، فكان في طفولته أنانياً كثير الشكوى والخلاف مع أقرانه، وشب فأصبح أكثر أنانية وجلافة وقسوة، ففي سبيل الوصول إلى هدفه، لا يهم من يكون ضحيته... ولا تهم الوسيلة لإبعاد من يعتبره عقبة في طريقه. اتبع أسلوب الخداع والمكر والدهاء، وساعده ذكاؤه وتربيته على إتقان فنون المراوغة، والظهور بصور وشخصيات عدة، ترضي من له عنده مصلحة، وترهب من عنده له مصلحة، فتأصل في نفسه حب الذات وعشق المادة، ولم يعد يفكر في ما يسعده ويرضيه، بل تغلب على مشاعره وأحاسيسه وعلى الفطرة الإنسانية في النفس البشرية... حتى في اختياره لشريكة عمره، لم يسمح لنفسه أن يفكر بمدى قبوله لها أو قبولها به، بل انحصر تفكيره في أنها يجب أن تكون الأفضل... والموازية له من حيث الحسب والنسب والثروة، وفي اعتقاده انه بذلك أكمل العقد... فلقد درس حتى حصل على أعلى الامتيازات. اختار مجال علم يمكن أن يضمن له علاقات مميزة، تتمخض عن ثروة تلتحم بثروته فتزيدها حجماً وكمية، وتمنحه سلطة وعنجهية... وتكمل افتقاره إلى الحياة الطبيعية، وتسلبه آخر ما لديه من أمل في الشعور بإنسانيته... ينام ويصحو وهو يفكر في مصالحه وأموره... تعمر مآدبه بكل ألوان الترف والبذخ، ويبتلع معاش خادم في داره إذا زاد لقمة لجوفه، ويسحق موظفاً صغيراً عنده إذا طالب بزيادة قروش راتبه ليسد قوت يومه. فالحياة من أجله، ولا يهم من قبله أو بعده. حتى زوجته مات إحساسها بالحياة وهي بقربه، حملت بطفله الأول فانصب اهتمامه واهتمام أهله بنوعية الجنين، والصفات التي يجب أن يتميز بها، فلا بد أن يكون ذكياً كأبيه... قوي البنية كجده... جميل الطلعة كوالدته... والأهم أن يكون ذكراً، فالأفضل أن يكون البكر ولداً، وخيبة أمل كبيرة أن تكون بنتاً... فهذا يعتبر إفشالاً لمخطط خطط له وهو في بداية حياته العملية. اهتم بصحة زوجته... بنوعية طعامها... بمواعيد نومها، فازداد نفورها منه، كلما ازداد إحساسها بأنانيته، وبأن اهتمامه ليس من أجلها، بل من أجل المولود الذي يجب أن يكون وزنه مثالياً... ولادته مثالية... صفته مثالية، ليس كغيره من المواليد. وجاء وقت الولادة، وأتى المولود، وكان ذكراً... فارتسمت ابتسامة عريضة على وجهه... وأومأ برأسه لوالديه إيماءة تعبر عما في نفسه من رضا وسعادة وظفر... وفجأة انحنى رأسه حتى لامست ذقنه صدره، وانفتح فمه ببلاهة وذهول... شل تفكيره... وانحشرت الكلمات في حلقومه... سلبت فجأة إرادته... وقلت حيلته، فأحس بصغر حجمه وضعفه، بل بانعدام وجوده أمام إرادة الخالق ومشيئته... لقد كان المولود ذكراً مشوهاً ناقص الأعضاء... فلقد رفضت زوجته الحمل من بدايته كرهاً به وبأنانيته... وبذلك جاء المولود ذكراً مميزاً... تحدث عنه الجميع، ولكن بألم وحسرة... فالطفل لا ذنب له... لكنه صفعة لوالده تُذكره بإرادة الخالق... فالحياة ليست لك وحدك... لك ولغيرك... فكر بنفسك وبمن حولك... السعادة لا تكون كاملة إلا بإسعاد الآخرين... والألم قاسٍ، والعقاب أقسى إذا كان الربح والفوز على أنقاض وتعاسة الآخرين. فلنتقِ الله في أنفسنا وفي من حولنا. - جدة