نعم رحل الروائي العالمي صيتاً والعربي ثقافة والمصري مولداً، عن مصر التي تلد العظماء والعباقرة ورجال الدين وقراء القرآن الكريم والمفكرين والأدباء المميزين، الذين يحبوننا ونحبهم وغرسوا حب مصر في قلوبنا، الراحل نجيب محفوظ. وبرحيله فقدنا أباً للرواية العربية التي يتمت بفقده على رغم وجود الكثير من الروائيين العرب العظماء، الذين خلفوا في تاريخنا الثقافي ارثاً روائياً يستحق ان نفاخر به ثقافات الأمم، الا ان محفوظ كان له الدور الاكبر في الاصرار على نهج خط مميز في كتابة الرواية العربية عموماً والمصرية خصوصاً، باتجاهه النموذجي للجني من منجم الثقافة الحقة في العمق الشعبي العربي الذي يتوارث اسرار الحضارات ويحملها في جيناته الثقافية. الأصالة وعبق التاريخ المتوارث الراسخ في البلاد العربية، ومنها ريف مصر وازقة القاهرة كخان الخليلي وزقاق المدق ونفح السكرية وقصر الشوق وبين القصرين وبقية الاسماء التي ازهرت فيها كلمات الراحل نجيب محفوظ ونفحت فيها انفاسه المرتوية بعبق التاريخ العريق، وخطت على ترابها خطواته الواثقة التي ستظل سراجاً على الطريق الروائي العربي والعالمي يقتدي بها كل كاتب روائي وكل محب لقراءة الرواية الأصلية الجادة التي فرضها نجيب على العالم. بدأت هاوياً للقراءة في سن باكرة، وفتنت بروايات نجيب محفوظ وغيره من الروائيين العرب والعالميين، ولكن كان لنجيب عمق وصدق وتصوير رائع للمشاعر الانسانية وللواقع ورموز ذكية، جعلتني انطلق معه بحب وسعادة يأخذني معه الى مساجد القاهرة وأزقتها ودراويشها وحوانيتها، وينقلني الى ارياف مصر وحقول الذرة وكيزانها، وترع المزارع وحقولها والى القرويين وطيبتهم وصلابتهم وجمال ارضهم واهلها، ويدفعني الى التنقل معه من حارة الى حارة، ومن بسطاء وشحاذين الى عباقرة وفلاسفة ومهندسين ومخترعين ومجانين، حملني مثلما حمل الكثير من القراء الى مصر على بساط الكلمة الذي بسطه لنا من خلال رواياته وخيالاته الواسعة، فتجولنا في انحاء مصر عبر التاريخ الماضي. انني هنا اسجل اعترافي بانه صاحب الفضل الاول بعد الله في تنمية الموهبة لدي وحبي للكتابة القصصية والروائية وزيادة تعلقي بموروث وطني وما يحمله تاريخنا المشرق، والموروث الشعبي الذي عايشته في طفولتي في بلدي من العظمة والروعة والعراقة، فزادني"محفوظ مصر"تعلقاً بتاريخ امتي منبع النور وموروث بلادي الصحراوي السعودية عموماً ومسقط رأسي خصوصاً، حيث الجبال الشامخات الذرى والرجال الأوفياء الكرام والسهول المنبسطة الواسعة المزهرة بالامجاد التاريخية والابل والذئاب وتراقص السراب في سهولها، جذبني الاسلوب المميز لنجيب محفوظ باكتشاف الجمال والروعة المدفونة في موروثاتنا الشعبية. رحم الله نجيب محفوظ الذي قاد ثقافتنا الى العالمية بكل عزم واصرار، ورسخ في نفوسنا الثقة، الذي رحل جسداً وبقي راسخاً بثقافته مثل اهرام مصر ونيلها الخالد. ان لدينا القدرة على الوصول الى طموحاتنا ونستطيع فرض انفسنا بالعمل الصادق بثقة لا تزعزعها اعاصير الاهواء ولا كوارث المؤامرات. علي الحبردي باحث وروائي سعودي