تظل العلاقة بين القرية والمطر زاخرة بخصوصية لا يعرفها إلا من ابتلت ثيابه وارتعشت شفاهه في أحد الأودية السحيقة وهو يسوق أمامه قطيعاً من أغنام صغيرة وكبيرة تتعثر في سيرها لغزارة السيل، ووالداه ينتظران إطلالته بفارغ الصبر، لتتولى الأم إيداع الأغنام في مراحها، فيما يشعل الأب النار في حطب القرض لحماية الجسم الغض من الشلل. وتختزل ذاكرة القرويين مشهد كبار السن في كل صباح وهم يغادرون منازلهم، حين يديرون أنظارهم باتجاه السماء منادين ربهم أن يرحمهم بالغيث، وألا يتركهم نهب القحط والجفاف الذي يجعد ملامح الأرض، لأن المطر هو قوام حياة تعتمد على الزراعة والرعي كأهم مرتكزين اقتصاديين يدعمان الإقامة في القرى ويحميان من ظاهرة الهجرة الجماعية. ولعل المأزق الأوحد الذي كان ولا يزال يؤرق سكان منطقة الباحة، هو تأخر موسم الأمطار حتى في أزمنتنا الحالية التي جيرت فيها الوظيفة الحضور لمصلحتها، وغيبت من يوميات غالبية الأهالي أبسط مفاهيم العمل وآليات الحرث والسقي، لأن بيوتهم الأسمنتية لا تستغني عن الماء الذي يستهلك بكميات كبيرة على يد صبية وعمالة وافدة لا يعترفون بمبدأ الترشيد في زمن شحت فيه موارد المياه من أودية وآبار وأصبح المعتمد الكلي على ما توفره الأشياب وما تسوقه الوايتات. ويروي حامد الغامدي 70عاماً أنه كان من عادة أهل القرية أن يخرجوا للاستسقاء حين تنأى عنهم رحمة السماء، فيخرج الشيوخ والشباب والأطفال بهيئة رثة في يوم الإثنين أو الخميس إلى المصلى خارج البنيان، وهم يرددون أهازيج وتراتيل شعرية بصوت جماعي ومنها"يا الله أرحمنا وأحسن فينا يا والينا لا تخلينا"فيما يردد البعض عبارة"مطر وسيل"والبقية يجاوبونهم"يا الله""ارحم عبيدك""يا الله""قدام الليل""يا الله""ومروغ الليل""يا الله"و"الغيث غيثك""يا الله"، مضيفاً أنهم كانوا يقتادون معهم ثوراً أو بقرة إلى مكان الاستسقاء، وبعد فراغهم من صلاة الاستسقاء يذبحون البهيمة ويتوزعون لحمها وفي الغالب لا يتفرقون حتى تنغمر أوديتهم وآبارهم بسيل منهمر، وينصب الماء من فوق أسطح بيوتهم الطينية وفي مساريبهم لأيام عدة، وهم يتحلقون حول جمر الغضى ينصتون لصوت قطار المطر في أواني المنزل ويحتسون المرق والقهوة المطيبة بالزنجبيل. ويرى العم حامد أن التفاؤل كان يلازم المزارعين والرعاة متى ما افتتح موسم الشتاء بالمطر، ولا يمر الشهر حتى تتحول المزارع إلى منتجع حراك شبه يومي، فهذا ينظف وثان يبني ما تهدم وثالث يحرث ويبذر القمح في وسميته. وينتقد العم حامد أوضاع المؤدين لصلاة الاستسقاء اليوم والذين يصفهم بالمظهريين ، لكونهم لا يعانون من قلة الماء معاناة حقيقية، ولا يعيشون أزمة الرعاة وأرباب المواشي الذين ينفقون على مواشيهم وقت الشدة ضعف ما تدره عليهم، مؤكداً أن المطر رحمة ورحمة الله قريب من المحسنين. وكما أن المطر يظل نعمة يتطلع إليها سكان القرى، إلا أن بعض سكان المدن يرون في آثاره نقمة عليهم، ويستذكر الأكاديمي"ص ز"يوماً عصيباً مر به منذ عامين في مكة حين كان عائداً إلى منزله في مخطط بطحاء قريش برفقة زوجته المعلمة وابنته بعد يوم عمل شاق، وكيف واجهته سيول أفقدته القدرة على التحكم في السيارة، التي تعمل بنظام إلكتروني تعطل على الفور وعجز الحاضرون حوله عن إنقاذه لعدم تمكنهم من فتح الأبواب وكادوا يدفعون أعمارهم ثمناً لولا لطف الله.