هناك مراحل مفصلية في تاريخ المجتمعات الإنسانية، لابد أن تتحدد فيها خياراتها المستقبلية ضمن سياق تقدمها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، ولا شك ان هذه الخيارات ستضع الاسس لمستقبل مسيرتها والأجيال القادمة، وعلى هذا الاساس فلابد لهذه الخيارات ان تستوعب كل الاحتمالات المفتوحة على المستقبل، والا اصبحت الخيارات محصورة في ظرفية زمنية محددة لا تملك ديناميكيتها المتجدده ذاتياً. وحين بدأ مجلس الشورى مناقشة مشروع نظام الجمعيات والمؤسسات الأهلية ونظراً إلى أهمية هذا المشروع فإن الكثير من المثقفين والمهتمين بالشأن العام تفاعلوا مع طرح هذا المشروع، ما حدا بأعضاء المجلس وباللجنة المكلفة بدرس النظام تحديداً، بتأجيل طرح مشروع النظام الى شوال المقبل، لتتمكن من جمع اكبر قدر ممكن من الرؤى والافكار حول هذا المشروع، وهذا يعد نضجاً معرفياً يشكرون عليه، ودليلاً آخر على ان اعضاء مجلس الشورى يسعون جاهدين لتقديم ما يعتقدونه الافضل لمجتمعهم ولوطنهم بشكل عام، وخصوصاً في ما يتعلق بالقضايا المصيرية. ان الجمعيات والمؤسسات الأهلية في التحليل النهائي تضع الاسس العملية لكيفية مشاركة الفرد السعودي في عملية التنمية المستدامة، على اعتبار ان تفعيل دور الفرد في المشاركة في اتخاذ القرار هو الهدف والوسيلة في عملية تطوير المجتمع وإدارته، وهذا ما ورد ضمن اهداف مشروع نظام الجمعيات والمؤسسات الأهلية. ولكن السؤال الأهم، من وجهة نظري وقبل مناقشة تفاصيل هذا النظام، هل نحن كدولة وكمواطنين نسعى إلى إنشاء مؤسسات مجتمع مدني تسهم في بناء الدولة الحديثة بالشكل الذي يعيد صياغة مفهوم المواطنة وبالتالي تكريسها على اسس تنظيمية أكثر فعالية وأكثر حداثة، بعد ان تم انجاز مرحلة التأسيس الكبرى التي ارسى قواعدها القائد التاريخي المؤسس الملك عبدالعزيز، طيب الله ثراه، والذي وحد البلاد على اسس بنية الانتماء العام والانتماء الخاص والتمازج بينها، ليضع مشروعه الحضاري موضع التنفيذ، وما نقصده بالانتماء العام هو الولاء للعقيدة الاسلامية التي تتسامى فوق كل الانتماءات الدنيوية الضيقة، اما الانتماء الخاص فهو توسيع دائرة الانتماءات التقليدية المحدودة سواء القبلية منها او المناطقية إلى الانتماء الوطني الأكثر اتساعاً ورحابة للجميع. ولولا هذا الدمج بين العام والخاص لما أصبحنا القوة الإقليمية التي لا يستطيع اي كيان على وجه الكرة الأرضية تجاهلها، وكيف تمكنا من الوصول الى هذا الوضع لولا الأطر التنظيمية الجديدة التي مهد لها القائد المؤسس بمشروع التوطين، الذي حوّل المجتمع - لنقل معظم المجتمع في ذلك الوقت - من مجتمع الترحال والصراع على الموارد الصحراوية الشحيحة بطبيعتها الى مجتمع الاستقرار ومجتمع العيش المشترك والتاريخ الاجتماعي المشترك، تصوروا لو ان الملك عبدالعزيز لم يكن يملك تلك الرؤية التي تجاوزت الواقع بمراحل، إذ حوّلت هذه الرؤية الصراعات والولاءات المتنافرة الى نوع من التجانس الاجتماعي وبطريقة تدريجية ولكنها واثقة لنصبح اليوم في قلب مجتمعنا الحديث الذي نفتخر بانتمائنا له جميعاً، هذا الوطن الذي اقرب ما يكون الى القارة، وهذه الوحدة التي ارسى قواعدها الملك عبدالعزيز، ومع تقادمها زمنياً اصبحت الخلافات المناطقية مصادر قوة، فهي التي تعطينا هذا التنوع الثقافي في مهرجاناتنا الوطنية واحتفالاتنا الشعبية، فأصبح الكل يحتمي بالوطن والكل يحتمي بقيادته، بعد ان كان الانتماء لا يتعدى المساحة التي نراها بالعين المجردة. ومن هذا المنطلق يجب علينا ان نفهم اهمية التأسيس لمنظمات المجتمع المدني بغض النظر عن السياقات التاريخية التي نشأت فيها والتي تعد اساساً للتطورات الهائلة في المجتمعات الأوروبية والتي رسخت تفعيل دور الفرد ضمن الدولة الوطنية الحديثة، وفي اطر قانونية تحفظ للفرد حقوقه وكرامته، وفي الوقت نفسه تحدد العلاقة بين افراد المجتمع والدولة. إن منظمات المجتمع المدني تُعد جزءاً اساسياً في بناء الدولة واستقرارها، على رغم ان هذه المنظمات تتمتع باستقلاليتها التامة عن الحكومة وبيروقراطيتها التي تعطل روح الابداع داخل الفرد، فمؤسسات المجتمع المدني في جوهرها تنشأ بمبادرات فردية تطوعية، سواء كانت هذه التنظيمات مهنية او جمعيات خيرية تتخذ طابع النفع العام، او جمعيات علمية تضم المتخصصين في مجال معين، والتي تسعى لتحقيق مصالح الافراد الذين ينتمون لهذه الجمعيات وتسعى لتحسين اوضاعهم، بما في ذلك زيادة قدراتهم الابداعية والمعرفية، وتقبل آراء الذين يختلفون معهم من اجل الصالح العام لهذه الفئة او تلك، وفي حال تنظيمات المجتمع المدني فإن مصالح الافراد في النتيجة النهائية لا يمكن ان تتعارض مع مصالح المجتمع بفئاته المختلفة والتي قد تبدو ظاهرياً متناقضة، وحتى الصراعات الفردية داخل هذه الجمعيات ضمن الأطر القانونية تصب في مصلحة الدولة والمجتمع، فالأفراد الذين يعبرون عن آرائهم داخل جمعياتهم المهنية او العلمية، لاشك انهم يشعرون بتعاظم دورهم داخل المجتمع، وبالتالي يعطيهم هذا، شعورياً او لا شعورياً، نوعاً من احترام الذات والاحساس بالكرامة الذي لا تحققه لهم البيروقراطيات الحكومية وتعليماتها الصادرة من سلطة اعلى الى سلطة تراتبية اقل وضعاً. وفي هذه الحال فإن الفرد ايضاً يرى ان كل شيء مفروض عليه من سلطة اعلى خارج ارادته، مهما كانت حسن النوايا، ومهما بلغ حد الاخلاص بالجهات التي تصدر هذه التعليمات، وبالتالي فإن تفاعله مع هذه التعليمات يكون اقل عطاءً، إن لم يصل الى حد عدم المبالاة، وبطبيعة الحال في غياب الاطر التنظيمية الفاعلة فإن مصلحة الفرد، في معظم الحالات، تطغى على المصلحة العامة، ويجب علينا ان نسلم ان الافراد ليسوا في جلهم"ملائكة"يغلبون المصلحة العامة على مصالحهم الفردية. ولكن الاطر القانونية والتنظيمية وحدها التي تحد من أنانية الفرد وتكبح جماح النفس البشرية التي تسعى للحصول على المزيد من الامتيازات، إن نظام الجمعيات والمؤسسات الاهلية المطروحة حالياً للنقاش يفتقد جوهر الأسس التي تقوم عليها مؤسسات المجتمع المدني وهو الاستقلالية عن بيروقراطية الحكومة الى اقصى درجة ممكنة تستطيع مؤسسات الدولة تحملها، ونرى ان صلاحيات الهيئة الوطنية للجمعيات والمؤسسات الاهلية تلغي كل استقلالية ممكنة، وبالتالي تفقد الجمعيات والمؤسسات الاهلية الاهداف الاساسية والجوهرية التي انشئت من اجل تحقيقها، فهل يعيد مجلس الشورى النظر في الصلاحيات التي تتمتع بها الهيئة. * أكاديمي سعودي