على يد والده، تعلم فايز حسن يحيى كيفية تغسيل الموتى. ولكن هذا الشاب الذي لم يتجاوز عامه ال31، والذي يقضي جل وقته مع «الموت»، يحلم أن يكون «سيافاً»، لينفذ أحكام القصاص على المُدانين في ساحة القصاص. وعلى رغم ذلك يؤكد أنه يُحب الحياة. قبل زهاء أربعة عقود قدم والد فايز من مسقط رأسه اليمن، إلى المنطقة الشرقية، وتحديداً إلى مدينة الدمام، عمل في مسجدها الشهير «الشيخ عيسى»، مُغسلاً للموتى. واختار ابنه الأوسط كي يرث هذا الحرفة عنه، التي نقلها معه إلى محافظة بقيق. وعُرف الأب ب «الأخلاق الرفيعة والسمعة الطيبة». ولم يكتف في تغسيل الموتى، بل تولى رفع الآذان والصلاة في الجماعة، في الفروض الخمسة، محافظاً على الجامع الذي يعمل فيه (معاوية بن أبي سفيان). ولم يكتف بذلك، بل كان يقيم حلقة لتدريس وتحفيظ القرآن الكريم لأطفال. وعندما تقدم به العمر قام بتعليم ولده وزوجته، تغسيل الموتى. ويقول فايز: «والدي كان مغسل الموتى منذ آتى إلى المملكة، قبل أكثر من 40 عاماً، وبدأ في مسجد عيسى في الدمام، وعمل هناك ستة أعوام، ثم انتقل إلى بقيق». ويتذكر الابن قصة كان الأب يرويها لهم، في أول مرة قام فيها بتغسيل ميت، وهو شاب نُفذ فيه حكم القصاص، وبعد ذلك استمر في هذا العمل. وبدأ فايز في تغسيل الموتى، حين كان عمره 13 سنة. ويقول: «اختارني والدي مع أني الابن الأوسط. وسبب اختياري لملاحظته وجود الجرأة لدي، وفي أحد الأيام كان والدي يستعد لتغسيل الموتى، فناداني وأخذني إلى المُغتسل، ولم أكن أعرف عما في الداخل، فأدخلني وأغلق الباب. وهناك كانت الصدمة، إذ نظرت إلى جسد مُغطى بقماش. وقام والدي بإزالته، وإذا بجثة وافد، تعرض إلى حادثة، وكان مصاباً بكدمات وجروح في وجهه. فوقفت متصلباً من الموقف المفاجئ. وأنا صغير في السن، فطلب مني والدي مساعدته في التغسيل، فوقفت فترة طويلة وأنا أنظر إلى الجثة دون أن أستطيع أن أحرك قدمي، ولو بخطوة واحدة. وبعد ذلك طلب والدي مني المساعدة في التغسيل، وأخذت بمساعدته شيئاً فشيئاً، حتى انتهينا من التغسيل. وكان والدي يعلمني كيفية التغسيل في البداية؛ نظرياً». وواصل فايز مساعدة والده لأكثر من 11 عاماً، حتى وصل عمره إلى 24 سنة، إذ ترسم مُغسلاً للموتى في بلدية محافظة بقيق قبل ثمانية أعوام. ويضيف «في أحد الأيام، أراد والدي الذهاب إلى اليمن، لزيارة الأقارب، وكانت صحته جيدة، وبعد ذهابه بأسبوع، وفي فجر يوم عيد الأضحى، أتانا خبر محزن بوفاته. وفي ذلك الوقت لم أستطع الذهاب إلى اليمن، فالدوائر الحكومية كانت مُغلقة. وكان حلمي إن كتب الله علي الموت أن يكون والدي هو من يغسلني. وإن كتب الله على والدي الموت أن أقوم بتغسيله. وهذا ما أحزنني كثيراً في فقدان والدي، إذ لم أستطع رؤيته بعد وفاته. ولم أقم بتغسيله إكراماً له على ما علمني من علم وتربية، وتحفيظي القرآن الكريم. وكان يذكرني في الآخرة عند تغسيل الموتى». مواقف كثيرة مرت على هذا الشاب، خلال عقدين من عمله في تغسيل الموتى، أبرزها عندما «أتوا بوافد مر على جثمانه في ثلاجة الموتى أكثر من سبعة أشهر. وقالوا لعله لا يحتاج إلى تغسيل، خشية من وجود تعفن في جسده. ولكنني أصررت على تغسيله، وحين بدأت في ذلك، لم أر في جسده شيء من العفن أو غيره. وكأنما فارق الحياة الآن، وليس قبل سبعة أشهر، إذ لم يتغير شي من جسده، ولم تنبعث منه أية رائحة. وكان تغسيله سهلاً جداً، إذ كان ذو جسد لين لم يتصلب لطول الفترة التي قضاها داخل الثلاجة. فمن المعروف أن المُتوفى بعد يومان أو ثلاثة يكون جسده صلباً». ولم يكتف فايز بغسل هذا الميت «العجيب»، بل أخذ يسأل عنه لدى كفيله، الذي أخبره أنه «كان يعمل عمل عنده في مزرعة في هجرة قريبة من بقيق. وكان يقيم الآذان والصلاة في مسجد المزرعة. وكان يتوجع من ألم في بطنه. وفي ظهر أحد أيام شهر رمضان المبارك، نصحه زملاؤه بالذهاب إلى المستشفى، ولكنه رفض. وكان يخاف أن يضعوا له مغذيات أو إبر، فيبطل صومه. وأصر على إكمال صيامه. وقد رفع آذان العصر وصلى بهم. وعند الإفطار لم يتناول الإفطار إلا بعد أن يرفع الآذان. فانتظره العمال سماع صوته. ولكنه تأخر، فذهبوا إلى المسجد ليجدوه قد فارق الحياة». أما المواقف «المُخيفة»، فتحدث حين يؤتى له بأجساد متوفين في حوادث «بشعة». ويقول: «تكون الأجساد مُقطعة والجروح عميقة»، مضيفاً «بعض الموتى يتعبونني في التغسيل، وأجد صعوبة في نقله وقلبه من جانبه الأيمن إلى الأيسر، وتكفينه. وعند الانتهاء من ذلك أشعر أنني بذلت جهداً كبيراً. والبعض الآخر أجد في تغسيله كل سهولة ويسر، وعند الانتهاء لا أشعر بأي جهد».