تكثر في هذا العصر الأمراض النفسية بسبب تغير موازين الحياة في صورة سريعة، وكثرة المنغصات من حروب وقلاقل وتفكك اجتماعي يُعزى أساساً إلى تفكُّك الأسر، ما كان له أكبر الأثر في النفوس والعقول، وأدى إلى انتشار هذه الأمراض. ولأهمية وخطورة هذه الأمراض في قيام المسؤولية الجنائية أو انعدامها، كان لابد من تسليط الضوء عليها بالبحث والدرس، وسنقصر موضوعنا اليوم على انفصام الشخصية أو الفصام، لنبين النواحي القانونية المتعلقة بهذا الأمر. فالفصام مرض عقلي، يصنفه علماء النفس بأنه أحد أكثر الأمراض الذهنية شيوعاً وانتشاراً، خصوصاً أن أكثر المصابين به مودعون في المصحَّات النفسية والعقلية، وتؤدي الاصابة بهذا المرض إلى عدم انتظام الشخصية وتدهورها على نحو تدريجي. ويعّرف أحياناً بأنه تشتت وتناثر مكونات الشخصية، وكان الفصام في ما مضى يعرف باسم الخبل المبكر أو خبل الشباب أو جنون المراهقة. وللفصام أنماط عدة ويلاحظ أن هناك تداخلاً وتغيراً من نمط إلى نمط مع تقدم المرض، أما أهم أنماطه فهي كالآتي: 1- الفصام الحاد، وتكون أعراضه حادة وفجائية الظهور، مع أن المريض قد يشفى منه تماماً في غضون بضعة أسابيع أو ينتكس. 2- الفصام المزمن، وهو الفصام الذي أُهمل في أوله حتى اشتد من دون علاج. 3- فصام الطفولة، وتظهر أعراضه قبل البلوغ، ويبدو فيه فشل واضطراب في نمو الشخصية. 4- الفصام التفاعلي، وفيه يرتبط المرض بعوامل نفسية حديثة أو ضغوط اجتماعية واضحة، ويكون الشخص متوافقاً اجتماعياً قبل المرض. 5- الفصام الكامن: حيث لا تكون أعراضه خارجة بل مكبوتة في داخل المريض، ويكون المريض على حدود الذهان، وقد يكون لديه بعض أعراض الفصام، لكنها ليست كحالة الفصام المتقدم أو المزمن، ويكون لدى الفرد توافق حدي في سلوكه مع كونه شاذاً أحياناً وغامضاً وغريباً. صلة الفصام بالجريمة 1- إن نسبة 8 في المئة من مرتكبي جرائم القتل أو محاولات القتل هم من مرضى الفصام. 2- احتمال انخراط مريض الفصام في أعمال العنف يعادل أربعة أضعاف الأشخاص العاديين. 3- إن مرتكبي الجرائم من المرضى الفصاميين من مرتادي ومراجعي العيادات النفسية غالباً، إلا أنهم تركوا العلاج قبل ارتكاب الجريمة. 4- الإقدام على الجريمة من هؤلاء المرضى عادة ما يكون من بعد إصابتهم به من خمس إلى عشر سنوات. 5- جرائم المريض بالفصام غالباً ما تكون غير مبررة. 6- تعتري المريض نوبات فجائية، ما يجعله يفرح ويشتد ثورانه، إذ يصبح خطراً على مجاوريه. 7- المريض بعد ارتكابه جريمة بشعة قد يكون في غاية السكون والاطمئنان وكأنه لم يفعل شيئاً. 8- جريمة المصاب بالفصام قد تكون نتيجة توهُّمه بأنه يدافع عن نفسه وأن المجنى عليه كان يريد الاعتداء عليه. واقعة لمرض الفصام أولاً: وقائع القضية صك الحكم رقم .... 14ه محكمة مكةالمكرمة. بالاطلاع عليه، وجدت الدعوى المقامة والمنظورة أمام الدائرة القضائية الثلاثية في محكمة مكةالمكرمة العامة، والواردة لها بخطاب مدير الادعاء العام في مكةالمكرمة رقم ه م... في... 14ه المتضمن النظر في الحق الخاص الناجم عن جناية القتل، التي ارتكبها ح.و.ع. ب. فقد ادعى المواطن ث. ث. ث. ب بهويته بالأصالة والوكالة عن بقية الورثة، ومنهم من هو أصيل عن نفسه وبصفة ولايته على القصر من أولاد المتوفى، مورثهم المجني عليه، بموجب الوكالة وصك الولاية والمتضمنة مطالبة المدعي أصالة ووكالة بقتل الجاني المذكور قصاصاً لحق مورثهم ضده، إذ قام بقتل مورثهم. فقد حضر الجاني إلى منزل القتيل، وبعد خروج المجني عليه، قام بإطلاق النار عليه من مسدس يحمله بطلقة واحدة عمداً وعدواناً وهو بوعيه وإدراكه، وتوفُي مورثنا على إثرها في الحال. وصدر الحكم عليه بالقتل قصاصاً، وبسؤال المدعى عليه عن الدعوى أجاب وهو بحالته المعتبرة شرعاً قائلاً: "لا أدري عن شيء، لأني مريض ولا أعلم نوع هذا المرض، لأنني لم أراجع أي طبيب للكشف عنده، ولكني سمعت من الناس أنني قتلت ابن المدعي" هكذا أجاب. وبعرض ذلك على المدعي قال: "الصحيح ما ذكرته في دعواي، والبينة على ذلك اعترافه المصدق شرعاً" وبالاطلاع على اعتراف المدعى عليه، وجد أنه يتضمن اعترافه على عمله الذي ذكره المدعي، وبسؤاله عن اعترافه، أفاد قائلاً: "لا أدري عنه ولا أقول عنه صحيح أو غير صحيح هكذا أقر مجرى سؤاله هل كان طبيعياً حين قتل ابن المدعي، قال: "لو كنت طبيعياً ما قتلته"، فسألناه هل لديه بينة على ذلك، قال: "نص التقرير الطبي الصادر من مستشفى الصحة النفسية في الطائف رقم... والتقرير الطبي رقم... من المستشفى المذكور كذلك أطلب الرجوع إليهما والاطلاع عليهما"، فجرى الرجوع إليهما، فوجد الأول يتضمن أنه بعد الكشف الطبي المتكرر على الجاني تبين أنه لم يسبق له العرض أو الدخول إلى المستشفى، والمذكور هادئ متعاون ومدرك للزمان والمكان والأشخاص، ووظائفه الموفية في الحدود الطبيعية إلا أنه كانت لديه معتقدات مرضية خاطئة تجاه المجني عليه... وقد شخصت حالته المرضية بأنه يعاني من ذهان الفصام، وتوصي اللجنة الطبية الشرعية بإبقاء المريض في المستشفى فترة أخرى، ليصدر عنها التقرير الطبي الشرعي النهائي عن تحسن حالته، وقد تضمن هذا التقرير أن المذكور أدخل المستشفى في... وبالرجوع إلى التقرير الثاني المذكور وجد أنه يتضمن إشارة إلى أعراضه المرضية السابقة، كما أن اللجنة الطبية الشرعية ترى أن المذكور كان واقعاً تحت تأثير أعراض مرضه العقلي وأفكاره المرضية الخاطئة عندما أقدم على ارتكاب جريمته، وكان لا يدرك أو يعي أ. ه، ثم ذيل التقرير بأسماء الأطباء الموقعين أدناه. وبعرض التقرير على المدعي المذكور، قال: "الصحيح ما ذكرته في دعواي، فالمدعى عليه قتل ابني وهو بإدراكه ووعيه"، وقد جرت الكتابة لمدير ادارة السجون في مكةالمكرمة برقم... ، لإحالة المذكور إلى مستشفى الأمراض النفسية في الطائف وتشكيل لجنة طبية للكشف عليه والإفادة. فهل حالته الصحية في الوقت الحاضر تمكنه من التعبير عما لديه، إذ يمكنه سماع إجابته أم لا تمكنه من ذلك؟ وإعيدت الأوراق من إدارة السجون برقم... برفقة التقرير الطبي الصادر عن اللجنة الطبية من مستشفى الصحة النفسية في الطائف جاء بإفادة اللجنة الطبية أنه في الوقت الراهن يمكنه الاجابة إذ أن حالته الصحية مستقرة على العلاج ويمكنه المثول أمام المحكمة لسماع الدعوى المقامة عليه، وأخذ أقواله مع الاعتبار لطبيعة مرضه العقلي، الذي يعاني منه، ورقم هذا التقرير ... في... وبعد ذلك اقتضى رفع الجلسة. وفي يوم الاثنين... افتتحت الجلسة، وحضر الطرفان وجرى الرجوع إلى افادة معرف قبيلة القاتل والقتيل في محافظة... المتضمنة أنه سمع من أخوة القاتل أنه يتعالج لدى مشائخ، ولا يُعلم ماذا كان يعاني حسبما دوّن في صحيفة 17 من الملف رقم 1، وأفاد والد القاتل أن ابنه القاتل يتعالج لدى مشائخ، لأن به قلقاً ولا يأتيه النوم، وقد سبق أن عالجه إخوانه لدى مشائخ، ولا يزال يعاني من المرض المدون في صحيفة 17 من الملف رقم 2، وافاد أخو القاتل ع بأن القاتل أخوه وأنه مسحور، وقد عرضه على كثير من المشائخ وأثبتوا أنه مسحور. وبالاطلاع على صورة خطاب من إمام مسجد، وجد أن الجاني به سحر ومس من الجن، ويتعالج لديه منذ فترة، وأفاد الرئيس المباشر للقاتل، في عمله الحكومي، أنه لوحظ عليه أنه مريض نفسياً وبه مس كما يفيد التقرير الموجود لديه والمدون في صحيفة 5 والتقرير الصادر عن الرئيس المباشر المذكور المؤرخ في ... والمتضمن أنه تصدر من القاتل تصرفات غير طبيعية، فيتحدث مع نفسه، ويدعو الله تعالى... كما أخبر زملاءه بأنه تعرض للسحر. وبالاطلاع على خطاب مدير شرطة العاصمة المقدسة رقم... الموجه إلى مستشفى الصحة النفسية في الطائف والمرفق بالمعاملة لفة 76 المتضمنة أنه وجد في منزل القاتل في ينبع بعض الرسائل الموجهة إلى بعض الدول يشكو فيها حالته، ويستدل بأحاديث نبوية على أنه الجهجاه المنتظر. ووجدت تقارير طبية من أحد المستوصفات في ينبع تفيد أنه راجعهم مرات عدة، ويعاني من القولون العصبي وحالة نفسية يراجع فيها أخصائي الأمراض النفسية، ما يؤكد وجود قلق ومعاناة من بعض الوساوس المرضية، وأعطي العلاج اللازم لذلك، وإحيل إلى مستشفى الملك عبدالعزيز في العاصمة المقدسة، وصدر بحقه التقرير المبدئي المتضمن أنه هادئ ومتعاون ومدرك للزمان والمكان والأشخاص وكلامه مفهوم ومترابط ويعاني من ضلالات. ورأى الأختصاصيون إحالته إلى مستشفى الأمراض النفسية في الطائف. أ. ه. وبعرض ما سبق على المدعي وسؤاله عنه، قال: "لا صحة لما ذكر، والمدعى عليه قتل وهو في كامل وعيه، ولا أعلم أن بينه وبين ابني عداوة لقتله". وبسؤال المدعي هل يرغب في يمين المدعى عليه على أنه قتل مورثهم وهو ليس بوعيه وإدراكه، قال: "لا أرغب في يمينه". وتقرر لدينا تحليف المدعى عليه على ذلك استظهاراً، فوافق على ذلك، وحلف قائلاً: "والله العظيم الغالب الطالب المهلك المدرك الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور إني قتلت مورث المدعي ولست في وعيي ولا في إدراكي". ثانياً: الحكم فنظرنا إلى ذلك، ولأن القصاص لا يجب على مجنون أو معتوه بلا خلاف، لأن القصاص عقوبة مغلظة، والحدود لا تجب على زائل العقل، لذا أفهمنا المدعي أنه لا يتحقق له ما يدعيه، وله المطالبة بدية مورثهم إن رغبوا ذلك، وبما تقدم حكمنا الأثر الجنائي ل "فصام" الشخصية يرى بعض أساتذة القانون الجنائي أن من الصعب تحديد المسؤولية الجنائية لمثل هؤلاء المرضى في الفترة السابقة على ظهور المرض في شكله النهائي، وعموماً فإن الرأي في ذلك هو رأي أهل الخبرة من الأطباء الذين يحددون مدى تأثير المرض في القدرة العقلية والإرادية للمريض، أما تحديد مسؤولية الجاني المصاب بالانفصام وقت جناية ما فيعتمد على مدى إدراكه وعلمه، أو أن عمله صدر عن إرادة واختيار بمعنى وجود قصد جنائي، وبمعنى آخر أن المسؤولية منوطة بالتكليف، ويقصد بذلك القدرة على فهم ماهية الأفعال ونتائجها، والمقصود بفهم ماهية الفعل من حيث كونه فعلاً يترتب عليه نتائجه الاجتماعية العادية، وليس المقصود ماهيتة في نظر القانون الجنائي، فالإنسان يسأل عن فعله ولو كان يجهل أن القانون يعاقب عليه، إذ لا يصح الاعتذار بجهله بالقانون. وبذلك يتضح لنا أن المصاب بالفصام في حالاته المتقدمة التي تجعله في عداد المجانين غير مسؤول عن فعله، ما يستوجب إيداعه في المصحات النفسية. أما المصاب بالفصام في مراحله الأولية من الإصابة فلا يزال مكلفاً، لأنه لم يدرج في عداد المجانين، وهذا التقدير يستند إلى ما يعده الأطباء النفسيون وقرائن الأحوال للجريمة، إذ علمنا أن سلطة القاضي التقديرية لا تتوقف عند تقرير الطبيب فقط، فهو ينظر إلى ملابسات القضية من جميع جوانبها ودوافعها وطريقة فعلها والنتائج المترتبة عليها والآلة المستخدمة في الجريمة والإعداد لها، إلى غير ذلك من البيانات والقرائن الموصلة إلى تحديد المسؤولية من عدمها.