بادئ ذي بدء فإن النظام الجزائي - أو بحسب التسمية من بلد لآخر - هو "مجموعة القواعد القانونية التي تهدف لحماية الحقوق والحريات". وكما هو معلوم فإن النظام الجزائي هو جزء من النظام القانوني العام في الدولة، وله هدف سامٍ وهو تنظيم المجتمع بحماية بعض المصالح التي يرى المنظم الجزائي أنها جديرة بتلك الحماية وكذلك تحقيق الاستقرار والطمأنينة لأفراد المجتمع إضافةً إلى إرضاء شعور الأفراد بالعدالة إذا ما اعتدى هذا المعني بارتكاب جريمة ضد هذا الشعور، وتكون حماية المصالح الاجتماعية والفردية بتجريم الأفعال التي تصيب بالضرر أو تعرض مصلحة من المصالح للخطر مع تقدير العقوبات المناسبة والملائمة لتلك الأفعال، وبمعنى آخر فإن الهدف من النظام الجنائي هو"حماية الحقوق والحريات". أما ما يخص إرضاء الشعور بالعدالة فهو يكمن بالطبع في إيقاع العقوبة على مقترف الذنب والجرم الجاني، إذ يكون أذى العقوبة مماثلاً ومقابلاً لأذى الجريمة. إن جريمة الرشوة في صورتها العامة أو العادية تفترض وجود طرفين متقابلين وهما الموظف المرتشي ومن الطرف الآخر صاحب المصلحة الراشي إضافة إلى هذين الطرفين يجب توافر أركان معينة حتى تقوم هذه الجريمة بصورتها العادية حيث إن تخلف أحد الأركان يمنع قيام وتطبيق العقوبة لهذه الجريمة لعدم توافر أحد هذه الأركان، على رغم ما تمثله في هذه الحالة من إخلال للثقة في الوظيفة العامة والمساس بنزاهة وحيدة من يقومون عليها. إضافة إلى أنه بهذه الجريمة قد يهضم حق كثير من أفراد المجتمع مما يهز ميزان العدالة عن طريق أشخاص أخلّوا بواجباتهم الوظيفية لهذا الغرض غير مكترثين بما يصيب الطرف الآخر من ضرر. من أجل هذا وذاك نص النظام على تجريم صور أخرى للرشوة إلى جانب الصورة الأساسية أو العادية لها، كما أن المنظم - سدد الله خطاه - ألحق بجريمة الرشوة بعض الجرائم التي يشتبه بها لكون الجاني أو المجني عليه فيها موظفاً عاماً، ومن هذه الجرائم ما نحن بصدد الحديث عنه في سياق هذه المشاركة المتواضعة وهي جريمة"استغلال الموظف لنفوذه". النص التجريمي تصدت المادة الخامسة من نظام مكافحة الرشوة الصادر بالمرسوم الملكي الكريم رقم م/36 وتاريخ 29-12-1412ه، لهذه الجريمة تحقيقاً للحماية الكافية والكاملة للجهاز الحكومي من الفساد الإداري حيث نصت تلك المادة على:"كل موظف عام طلب لنفسه أو لغيره أو قبل أو أخذ وعداً أو عطية لاستعمال نفوذ حقيقي أو مزعوم للحصول أو لمحاولة الحصول على أية سلطة عامة على عمل أو أمر أو قرار أو التزام أو ترخيص أو اتفاق توريد أو على وظيفة أو خدمة أو مزية من أي نوع يعد مرتشياً ويعاقب بالعقوبة المنصوص عليها في المادة الأولى من هذا النظام". من الملاحظ على المادة أعلاه أنها تتكون من شقين: الشق الأول: نص تجريمي. الشق الثاني: نص عقابي. إن المتأمل ببصيرة يلاحظ مدى جسامة وخطورة تلك الجرائم وما يلحقها من إخلال بالثقة بالوظيفة العامة ناهيك عن الإخلال بميزان العدالة والمساواة بين المواطنين أمام المرافق العامة هذا إذا كان النفوذ الذي يستغله الموظف حقيقياً أما إذا كان النفوذ مزعوماً فيعتبر المدعي محتالاً على أصحاب المصالح، ويمكن أن تقوم بجانب هذه الجريمة جريمة النصب والاحتيال. كما أن هذه الجريمة تعتبر إحدى صور الرشوة الحكمية ولكن يجب أن لا يخفى على القارئ الكريم أن هذه الجريمة على رغم أنها ليست رشوة حقيقية بصورتها العادية إلا أنها تتفق معها في أمرين مهمين ولذا أخذها النظام في الاعتبار، وقد أصاب في ذلك المنظم باعتبار أن الموظف المستغل لنفوذه في حكم المرتشي. فأوجه الاتفاق تتلخص في الآتي: أولاً: أن هذه تعتبر جريمة ولكن لا تقع بالطبع إلا من موظف عام أو من في حكم هذا الموظف. في الفقه الإداري هنالك تعريف للموظف العام وهو"كل شخص يعهد إليه من سلطة مختصة بأداء عمل دائم في خدمة مرفق عام يدار بأسلوب الاستغلال المباشر". من هذا التعريف نستطيع استخلاص شروط اعتبار الموظف موظفاً عاماً يخضع لأحكام الأنظمة واللوائح التي تنظم الوظيفة العامة وهي: 1 - القيام بالعمل في خدمة مرفق عام تديره الدولة مباشرة، وبالطبع فإنه يتبع ذلك الأشخاص المرافق العامة الأخرى، كالإمارات والهيئات والمؤسسات العامة. وبهذا يجب أن يكون الشخص شاغلاً لمنصب يدخل في التنظيم الإداري له. ويستوي أن يكون المرفق إدارياً أو صناعياً. 2 - القيام بالعمل بصفة دائمة لا عرضية. 3 - أن يكون التحاق الشخص بالوظيفة قد تم وفق الأنظمة واللوائح المعمول بها. أما الموظف الحكومي أو ما يكون في حكم الموظف العام فقد ورد تحديده تحديداً دقيقاً بحسب ما جاء في المادة الثامنة من نظام مكافحة الرشوة: بما نصه ما يعد في حكم الموظف العام في تطبيق أحكام هذا النظام: 1- كل من يعمل لدى الدولة أو أحد الأجهزة ذات الشخصية المعنوية العامة سواء كان يعمل بصفة دائمة أو مؤقتة. 2 - المحكم أو الخبير المعين من قبل الحكومة أو أية هيئة لها اختصاص قضائي. 3 - كل مكلف من جهة حكومية أو أية سلطة إدارية أخرى بأداء مهمة معينة. 4 - كل من يعمل لدى الشركات أو المؤسسات الفردية التي تقوم بإدارة وتشغيل المرافق العامة أو صيانتها أو تقوم بمباشرة خدمة عامة وكذلك كل من يعمل لدى الشركات المساهمة والشركات التي تساهم الحكومة في رأسمالها والشركات، أو المؤسسات الفردية التي تزاول الأعمال المصرفية. 5 - رؤساء وأعضاء مجالس إدارات الشركات المنصوص عليها في الفقرة الرابعة من هذه المادة. ثانياً: وجود المقابل الذي يحصل عليه الموظف المستغل لنفوذه والمتمثل في الوعد أو العطية التي يطلبها أو يأخذها أو يقبلها، وذلك كما في الرشوة في صورتها العادية أو الحقيقية. ولكن وعلى رغم هذا الاتفاق الكبير بين الرشوة في صورتها الحقيقية وبين هذه الجريمة التي تعتبر ملحقة بجريمة الرشوة إلا أنه هناك فرقاً واضحاً، وهذا الفرق يتعلق بالسبب الذي من أجله طلب الموظف أو قبل أو أخذ المقابل وذلك على النحو الآتي: أ - المقابل في جريمة الرشوة هو دفع الموظف للقيام بعمل من الأعمال التي تختص أو يزعم الاختصاص بها. ب - المقابل في جريمة استغلال النفود: يقصد به دفع الموظف لاستعمال نفوذه الحقيقي أو المزعوم، وذلك بغية الحصول على أو محاولة ذلك على غير ميزة أو فائدة ممن يختص بمنحها. مما سبق طرحه في الفرق بين جريمتي الرشوة الحقيقية وبين جريمة استغلال النفوذ يتضح أن الفارق الأساسي والرئيس هو: أولاً: الرشوة: اتجار في أعمال الوظيفة التي يقوم بها الموظف. ثانيا: استغلال النفوذ: اتجار في سلطة حقيقية أو مزعومة للموظف غير المختص بالعمل المطلوب. أركان الجريمة يجب أن لا يخفى على أخي القارئ أن الفرض في جريمة استغلال النفوذ هي انتفاء اختصاص الموظف أو زعمه الاختصاص بالعمل وهذا بالطبع ما يفرق هذه الجريمة عن جريمة الرشوة. فإضافة لكون مستغل النفوذ موظفاً عاماً أو من في حكمه فإنه يجب توافر أركان الجريمة الأخرى وهما الركن المادي والركن المعنوي. 1- الركن المادي: يتحقق هذا الركن بطلب الموظف أو قبوله أو أخذه عطية أو وعداً بها، سواء كان ذلك لنفسه أو لغيره لاستعمال نفوذه في الحصول أو محاولة الحصول على ميزة أو فائدة من المنصوص عليها في المادة الخامسة من النظام نظام مكافحة الرشوة. وينبغي لقيام هذا الركن لهذه الجريمة أن يكون أخذ العطية أو طلبها أو قبولها لاستعمال النفوذ الحقيقي أو المزعوم للموظف من أجل الحصول على ميزة أو فائدة من أي نوع، وقد تطلب النظام أن تكون الميزة أو الفائدة مطلوبة من أي سلطة عامة بشرط أن تكون سلطة وطنية. يترتب على ذلك أن الموظف لا يرتكب جريمة استغلال النفوذ إذا استغل سلطاته ومركزه من أجل قضاء مصلحة لشخص من جهة خاصة وكذلك لا يرتكب هذه الجريمة الموظف الذي يستغل نفوذه الحقيقي للحصول على فائدة أو ميزة من سلطة غير وطنية. كما يجب أن ننتبه أنه ليس شرطاً لازماً لقيام هذه الجريمة تحقيق الموظف المستغل لنفوذه ما وعد به ويحصل على الميزة أو الفائدة بمعنى أن النظام ساوى في العقاب بين الجريمة التامة والشروع فيها إذا أوقف أو خاب أثره لأسباب لا دخل لإرادة الفاعل فيها. 2 - الركن المعنوي: من المعروف أن هذه الجريمة جريمة استغلال النفوذ جريمة عمدية فلا بد لقيامها من توافر القصد الجنائي وهذا القصد هو القصد العام الذي يتحقق بالآتي: أ- العلم: إذا كان الموظف يعلم بوجود النفوذ الحقيقي أو كذب الادعاء بالنفوذ وكذلك العلم بنوع المزية الموعود بها وأنها من سلطة وطنية عامة. ب - الإرادة: اتجاه إرادة الموظف إلى أخذ أو قبول أو طلب العطية أو الوعد بها. فإذا توافر القصد الجنائي العام بعنصريه فلا عبرة بالبواعث الدافعة لاستغلال النفوذ من جانب الموظف ولا بالنية. عقوبة الجريمة إن صيانة الأداة الحكومية من الفساد يقتضي تعقب من يسيء من موظفيها استغلال وظيفته أو يتجر بنفوذه، سواء أكان هذا الاستغلال نتيجة لوعد أم وعيد، وسواء أكان هذا النفوذ حقيقياً أم مزعوماً، وذلك حرصاً على سلامة جهاز الإدارة الحكومية وصيانة للمصالح العامة التي يشرف عليها الموظفون العموميون وقد حاربت الشريعة الغراء استغلال نفوذ الوظيفة العامة والاستفادة منها بغير حق وحرمت ذلك وعرضت مرتكبه لأشد العقوبات الدينية والدنيوية فقال تعالى:"يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون". أما العقوبة الدنيوية لهذه الجريمة فقد وردت إحالة لها من المادة المجرمة لها نفسها وهي المادة الخامسة من هذا النظام بقوله:"... يعد مرتشياً ويعاقب بالعقوبة المنصوص عليها في المادة الأولى من هذا النظام"والعقوبة هي بحسب ما جاء في المادة الأولى من النظام:"يعاقب بالسجن مدة لا تتجاوز عشر سنوات وبغرامة لا تزيد على مليون ريال أو بإحدى هاتين العقوبتين ولا تؤثر في قيام الجريمة اتجاه قصد الموظف إلى عدم القيام بالعمل الذي وعد به". وبهذا فقد ساوى المنظم بين عقوبة هذه الجريمة وبين جريمة الرشوة الحقيقية من حيث العقوبات الأصلية والتبعية والتكميلية. وهذه العقوبة يستحقها الفاعل الأصلي الموظف المستغل لنفوذه، وكذلك الشريك في الجريمة صاحب المصلحة الذي أعطى المقابل لهذا الموظف أو وعد به. * مستشار قانوني Saher @hotmail.com