توالي القرارات من جانب مجلس الأمن ضد السودان لا يجب النظر إليه بشيء من اللامبالاة والتهاون وعدم التحرك على صعد واستثناء جبهات أخرى، كما أنه يجب ألا نطمئن أو نركن إلى الهدوء الحالي الذي أعقب آخر قرار صادر عن المنظمة الدولية، فربما تحت رماد الفتنة جمر مشتعل لا يبقي ولا يذر. الردود غير الرسمية من الحكومة السودانية حتى الآن تشير إلى أنها تعمل على الإمساك بالعصا من وسطها، فهي على رغم أنها أعلنت عن أنها لن تسلم أي سوداني لتتم محاكمته خارج السودان بارتكاب جرائم ضد الإنسانية في المحكمة الخاصة التي عين لها مدعٍ عام تسلم أسماء المتهمين في القضية من الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان الشهر الماضي، بحجة انتهاك القرار لسيادتها أولاً، ولأنها ليست ضمن الدول الموقعة على قانون محكمة الجزاءات الدولية، إلا أنها لا ترفض محاكمتهم أمام القضاء السوداني وعلى الأراضي السودانية، باعتبار أن نظام المحكمة الدولية فيه مواد، كما يبدو أنها لا تمانع في إيجاد حل وسط يسمح بوجود نوع من التنفيذ للقرار يشمل تطبيق روحه لا نصه، فهو يؤكد انه في حال قامت الدولة المعنية بلد المتهمين بمحاكمة المتورطين أمام محاكم محلية وأصدرت أحكاماً عادلة لا يتطرق إليها الشك فإن الدولة بالتالي تصبح غير ملزمة بتسليمهم إلى محكمة الجزاء الدولية. وفي هذا الصدد فقد أعلنت الحكومة السودانية عن أنها ستشكل محكمة للبت في تلك القضية إلا أن المشكلة التي قد تظهر هي في اختلاف أسماء المتهمين بين القائمة التي أعدتها الحكومة والقائمة التي أعدتها لجنة التحقيق الدولية والتي رشح عنها أنها تضم أسماء شخصيات قيادية وأخرى نافذة في الحكومة السودانية، فالحكومة اتخذت تلك الخطوة على أساس رد فعل لما يواجهها من مأزق دولي ترى انه يستهدف أركانها في المقام الأول باعتبارها ضالعة في تلك الجرائم بصورة مباشرة، كما يرى بعض القوى التي لها أغراض من تصعيد المسألة. فلو افترضنا جدلاً أن الحكومة قامت بمحاكمة أشخاص من الصف الثاني أو الثالث من المسؤولين أو أفراداً عاديين من المليشيات المتحالفة معها فإن هذا ربما لا يعجب القوى الدولية النافذة التي كانت وراء سلسلة القرارات التي تتابعت، كما حدث لدولة العراق قبل غزوه واحتلاله، خصوصاً أن بعض الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن ترى أن الفرصة أصبحت لديها سانحة لتحقيق أطماعها في"الكعكة"السودانية التي أظهرت الأيام أنها باتت يانعة، ممثلة في الثروات النفطية الهائلة التي بدأت تلتهمها قوة صاعدة تتمثل في التنين الأصفر الصين الذي تجاوزت استثماراته عشرات البلايين من الدولارات، ما يهدد المصالح الغربية في ما يبدو استحواذاً لمادة حيوية يزداد الطلب عليها بصورة مطردة في ظل نمو الطلب العالمي عليها يوماً بعد آخر، فبعد أن ضمنت الإمداد النفطي الخليجي بعد احتلال العراق، يبدو أن أميركا تسعى أيضاً للسيطرة على المخزونات الهائلة المكتشفة في السودان ولن يتأتى لها ذلك حالياً في ظل الشراكة بين الحركة الشعبية لتحرير السودان وحكومة البشير وأي خطوة لتصعيد الموقف ربما تؤدي إلى دق إسفين في تلك العلاقة، وبالتالي انفضاض سامر اتفاق السلام الوليد بين الشمال والجنوب، لذا تلجأ في تنفيذ مخططاتها إلى استغلال الصراعات الجهوية القائمة في غرب وشرق السودان لتحقيق العديد من المكاسب وخلق نوع من الفوضى البناءة بما لا يؤدي إلى تمزيق وحدة السودان في الوقت الحالي من جهة، ولإشغال الحكومة السودانية عن مشروعها الحضاري الذي اضطلعت به في فترة من الفترات من جهة أخرى، وذلك حينما اتهمت في فترة من الفترات بأنها ثير الكثير من التوترات في محيطها الإقليمي في إطار كيدها لأميركا في بدايات حكمها في أواخر الثمانينات. هناك قوى أخرى كفرنسا ليس لديها إلى حدٍ ما أطماع في السودان في ما يخص دار فور بقدر ما أن النار المشتعلة في ذلك الإقليم باتت تقترب من المحميات الطبيعية السياسية لها في غرب أفريقيا بعد أن سعت إلى تحقيق استقرار فيها، وخصوصاً في الجارة الغربية للسودان تشاد، إضافة إلى ذلك كان هناك"صراع أفيال"مع قوى أخرى ألقى بظلاله على المسألة السودانية، ففرنسا إحدى القاطرات الأوروبية في سبيل استرجاع هيبتها الدولية بعد تداعيات غزو العراق سارعت إلى استثمار بعض امتيازاتها في مجلس الأمن في أول بارقة لاحت لها، بما لا يتناقض أو يتعارض مع القطب العالمي الأوحد، ضد دول حالها يقول:"ما أكثر العدو وما اقل النصير"في مسيرة القافلة الأممية الجديدة، وتبنت في مواجهتها بعض القرارات التوافقية مع قوى الهيمنة الأخرى، واستغلت عملية اغتيال الرئيس اللبناني السابق الحريري ك"قميص عثمان"، وكان ما كان من استهداف لسورية. ومن بعدها جاء الدور على السودان بصدور القرار 1593. وعلى رغم حجج القوى الخارجية ومراميها القريبة والإستراتيجية وتسييسها للقضايا الإنسانية، إلا أن التعامل بردود الأفعال المتشنجة مع تلك الهجمة الشرسة من جانب الحكومة السودانية لا يجدي نفعاً، مهما يبذل من تحركات على كل الصعد الخارجية، وحده التحرك الداخلي تجاه القوى الداخلية المعارضة واتفاق الأطراف السودانية كافة على كلمة سواء هو الذي يجنب بلادهم المخاطر المحدقة بها، مع عدم استثناء أحد حتى لا يستغل كحصان طروادة من الأجنبي المتربص. عبدالله محمد عيسى سوداني مقيم - الرياض