لا اعتراض على حكم الله "قتلاً، صلباً،رجماً، قطعاً، جلداً" لا فرق. وإن أضحى الدخلاء عليه بعدد نجوم السماء، وبات المؤمنون به أكثر أو أقل. ليس مهماً على الإطلاق! المهم الآن: إلى أي مدى تكتسب الآراء الفردية قدسية واقعية؟ وإن نظرنا إلى أنها إنتاج بشري، تسلُّل الباطل إليها ذات اليمين أو الشمال وارد ومحتمل، وماذا تضير مراجعة الوسائل طالما الاتفاق على الغايات قائم، وعلى الجزم بأن وسائل تحقيقها لم تأت كلها تنزيلاً"من حكيم حميد".؟ إلى ذلك طغت مادة"جلد"في الأمام والمؤخرة على مدى أسابيع على المجالس والمنتديات السعودية، وغدت لحناً على شفاهٍ، وبلغماً قذراً يتردد في حلوق، لا تكاد تسيغها، وكادت اللفظة - الجلد - تنافس"العلوج"على لسان طيب الذكر الصحاف، محلياً وإلكترونياً. لكن أحداً لم يشأ الخوض في مناقشة المحظور والمباح من المصطلح، الذي اكتسب إضافة إلى ألوان أخرى من التعذيب شهرة إسلامية وعربية، إن حقاً وإن جوراً. والنقاش يدور حول مبدأ"التعزير بالجلد"في عصر باتت وسائل الردع والتعذيب فيه متعددة. وإن غلبت الروم فما مبررات"التوسع فيه"حتى أصبح العقوبة الأسرع إلى البديهة. ومع أن القاضي السابق والمحامي الحالي عبد العزيز القاسم أقر بأن التعديلات التي حدثت أخيراً في نظام القضاء السعودي مثلت"واحدة من النقلات الكبرى في مفاصل القضاء السعودي"، غير انه أشار إلى ضرورة تحسين مخرجات التعليم الجامعي وتكثيف التدريب القضائي الذي يذهب إلى بساطة القدر الذي يتلقاه القضاة منه في الوقت الراهن، وعد عنصر التدريب"واحدة من القضايا التي تتوقف عليها نوعية الاصلاح ومدى نجاحه في المستقبل". وأتى ذلك في معرض حديثه ل"الحياة"عمّا بقي بعد الهيكلة التي أعلنت. واعتبر خلو الساحة"من فقه مكتوب يعتمد عليه القضاة، سواء من خلال نظام التقنين أو السوابق، وفي كل الحالات يجب أن يكون للقضاء رأي واحد لا آراء عدة في القضايا المتشابهة"أمر مشكل، إذ أن"تعارض الأحكام يؤدي إلى إرباك عناصر أساسية في القضاء ليست لها علاقة بما جرى إصلاحه". وحول التعزير بالجلد ومدى إمكان بحث بدائل ألطف منه، يرى القاضي في المحكمة العامة في جدة حمد بن محمد الرزين أن" عقوبة الجلد على بشاعتها وإهانتها لمن وقعت عليه إلا أنها لا تزال تؤدي دورها المنوط بها من ردع المجرمين والمعتدين على حرمات المعصومين، وهي لائقة بفعل المجرم الذي استهان بفعلته وأقدم عليها بلا وازع من دين أو خلق، فهو من ألحق الأذى بنفسه فيداه أوكتا وفوه نفخ". بيد أن الرزين استدرك بأن"الملاحظ مع التوسع في هذه العقوبة، طغيانها على عقوبات تعزيرية أخرى أرى من الأولى الأخذ بها، وإيقاعها على المجرمين، ولا سيما وقد وردت لها أشباه في الشريعة، كالتعزير بالمال، تغريماً وإتلافاً والهجر والحبس والتغريب، وغير ذلك مما قد يكون له أثر أبلغ في الردع". وزاد"يكتسب هذا المطلب أهمية زائدة مع ما نشهده من استئناس بعض المجرمين المتمرسين في الإجرام بعقوبة الجلد، فأصبحت أو كادت لا تحدث في نفوسهم أثراً"! أما أستاذ الشريعة في جامعة الإمام محمد بن سعود الاسلامية سامي الماجد فإنه رفض وصف التعزير بالجلد بأنه عقوبة غير حضارية"طالما أن العقوبة بالجلد تشريع نزل به القرآن الكريم وصحيح السنة، وثابتة لا تتغير بتغير الزمان ولا بتغير المكان بإجماع علماء الأمة قديماً وحديثاً، ولا محل للاجتهاد في تقديرها، لا يجوز أن توصف - سواء أكانت حداً أم تعزيراً - بأنها طريقة غير حضارية، بل هي طريقة عادلة وعقوبة زاجرة، استحقها شخص غير حضاري انتهك شيئاً من قيم الحضارة والرقي". وتابع:"وأما التعزير بالجلد في غير الحدود فمشروع باتفاق أهل العلم، لكنه ليس عقوبة متعينة بحيث لا يجوز التعزير بغيره، فتقدير التعزير موكول إلى اجتهاد ولي الأمر أو نائبه وهو القاضي، فإذا رأى القاضي أن التعزير بغير الجلد أجدى فله ذلك، ويسعه ألا يعزر بالجلد. وله كذلك أن يترك التعزير بالجلد إلى غيره إذا رأى للردع والزجر وسائل أبلغ أثراً، أو درءاًَ لمفسدة قد تُثار، أو حفاظاً على مصلحة مكتسبة، أو جلباً لمصلحة راجحة مطلوبة.على أن القاضي لو اختار التعزير بالجلد فلا تثريب عليه، ولا يجوز أن يوصف حكمه بالتعزير بالجلد بأنه قضاء غير حضاري"لأن للعقوبة بالجلد أصلاً في الشرع." لكن الماجد على رغم ذلك انتهى إلى أن"تسويغ التعزير بالجلد لا يعني أن تقديره مطلق بلا ضابط ولا قيد، فالمحققون من أهل العلم ينصون على أن الجرائم التي في جنسها ما يوجب الحد لا يجوز أن يبلغ التعزير بالجلد فيها مبلغ الحد في جنسها، كمقدمات الزنا من التقبيل أو الخلوة، فلا يجوز أن يبلغ التعزير بالجلد على من وقعت منه 100جلدة، لأن ذلك هو حد الزنا، ولا يجوز أن تكون مقدمات الزنا مساوية لجريمة الزنا في العقوبة. وكذلك الشتم والسب لا يجوز أن يكون الجلد عليه مساوياً حد القذف، وهو80 جلدة، بل يجب أن يكون التعزير بالجلد في السب والشتم دون ذلك الحد. وأما الجرائم التي ليس في جنسها ما يوجب الحد، فيجوز أن يعاقب فاعلها بما يردعه من العقوبات التعزيرية، سواء بالجلد أو الحبس أو غيرها". ومن ناحيته، لم يرفض الباحث الاسلامي نجيب اليماني مشروعية التعزير بالجلد في العصر الراهن، إلا أنه احتج بأحاديث تفيد حرمة مجاوزة عشرة أسواط في غير الحدود، وتساءل عن مشروعية مئات الجلدات التي يتردد توزيعها في المحاكم السعودية. وقال:"خرج البخاري ومسلم عن هانئ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"لا تجلدوا فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله". وقد أخذ بهذا الحديث أحمد والليث وإسحاق وجماعة من الشافعية، والتعزير لا يكون بالجلد دائماً كما هو حاصل اليوم بل أيضاً يكون بالتوبيخ والزجر والوعظ والحبس، فعلى مر التاريخ لم نسمع بمثل ما نسمع به الآن من آلاف الجلدات، فقد يحكم بالتعزير على شخص ما بثلاثة أو أربعة آلاف جلدة، وهو ما لم يفعله رسول الله ولا صحابته." وأضاف:"إن جريمة الزنا وهي من الجرائم الكبيرة في حق الله وحق المجتمع قدر الله لها 100جلدة لا غير، بنص القرآن الكريم ولا أدري على أي أساس تم التوسع في الجلد لأدنى خطيئة وأقل معصية، فهذا علي رضي الله عنه ضرب رجلاً وامرأة 100جلدة وجدهما في لحاف واحد." وحول أسباب استمرار التعزير بالجلد وإمكان إيجاد بدائل أمثل يشير اليماني إلى أن"الفقهاء نصوا على أن التعزير يختلف باختلاف الأعصار والأمصار، فيجب ان يفرق بين أستاذ جامعي قال كلمة على سبيل النقد وطلب الإصلاح، وبين مجرم متمرس على الإجرام أو معتدٍ على حقوق البلاد والعباد". ودعا القضاة إلى الاختيار"من العقوبات ما يناسب الحال، فيجب على الذين لهم سلطة التعزير الاجتهاد في اختيار الأصلح لاختلاف ذلك باختلاف مراتب الناس وباختلاف المعاصي". ويكاد المهتمون من القضاة الذين تحدثوا إلى"الحياة"يجمعون على معارضتهم التوسع في الجلد، بل اشترط أمين المجمع الفقهي الاسلامي الدكتور صالح المرزوقي لجواز الجلد بحسب رأيه"أن تكون الحادثة ملائمة له، وأن تستنفد الوسائل الأخرى، بحيث يلجأ إليه في أضيق الأحوال"وقال إنه" يؤيد مبدأ التعزير بالجلد في العصر الراهن، لكنه لا يرى التوسع فيه مناسباً". لكن أحداً لم يدع إلى الاستغناء عن التعزير بالجلد نهائياً. فهل ذلك بالفعل مستحيل شرعياً؟! فيما زعمت "منظمة العفو الدولية" أن الجلد عقوبة محرمة دولياً ... المفتي واللحيدان ووزير العدل : القضاء الإسلامي أثبت قدرته على تحقيق العدل بين البشر أوردت مجلة"الجامعة الإسلامية"في عددها ال24 أن دولاً مثل بريطانيا وأميركا ومصر أصبحت تنزل عقوبة الجلد على بعض مرتكبي الجرائم، وتبعها في ذلك غالبية دول العالم، على حد تعبير المجلة، وقالت:"وقد نجحت هذه التجربة الجزئية نجاحاً منقطع النظير". وأكدت أن"بريطانيا تعترف بالجلد عقوبة أساسية في قوانينها الجنائية والعسكرية، ومصر تعترف بها في قوانينها العسكرية، وأميركا تجعل الجلد عقوبة في الجرائم التي يرتكبها المسجون". ورأت أن ذلك يعد" اعترافاً عالمياً بأن عقوبة الجلد أفضل من أي عقوبة أخرى، وأن كل عقوبات القوانين الوضعية لا تغني عن عقوبة الجلد شيئاً في هذا الباب". بينما ترى منظمة العفو الدولية أنه"يعتبر تعذيباً أو عقوبة قاسية". وزعمت في أحد تقاريرها عن السعودية أن المملكة"بصفتها من الدول الأطراف في اتفاقية مناهضة التعذيب ملزمة بعدم فرض أي عقوبات تعتبر من قبيل التعذيب أو العقوبة القاسية أو المهينة، بما في ذلك الجلد". لكن وزير العدل السعودي الدكتور عبد الله آل الشيخ ردّ على انتقاد منظمة العفو الدولية للعقوبات الشرعية في المملكة في حينٍ مضى بأن"غاية ما تهدف إليه تلك المنظمة أن تتخلى المملكة عن تطبيق الشريعة الاسلامية، وذلك مستحيل". وأكد أن"السعودية بحملها رسالة الاسلام وقيامها بمسؤوليات الحكم بالشريعة كان لقضائها سمات تميزه عن غيره، ومنها كونه مستقلاً". وفي حفلة تدشين ندوة"القضاء والأنظمة العدلية"التي نظمتها وزارة العدل في الرياض قبل نحو عام شدد مفتي السعودية عبد العزيز آل الشيخ على أن" الأنظمة البشرية كلها عاجزة عن حفظ حقوق الانسان، لأنها لا تستمد تلك الحقوق من الوحي الإلهي، بخلاف واقع أنظمة القضاء في بلادنا - ولله الحمد -". كما عقب رئيس مجلس القضاء الأعلى من جهته صالح اللحيدان بأن"القضاء الذي تعمل به السعودية مجرب، وأثبت قدرته على تحقيق العدل بين البشر".