عرف المفكر إبراهيم البليهي بأطروحاته الجادة والمغايرة في الحراك الثقافي داخل المجتمع، وهو يشتغل على نظريات التخلف والتقهقر الحضاري الذي تعاني منه البلدان العربية خصوصاً، وقد اهتم بهذا الحقل ووسع فيه كتاباته ومنافحاته، ومن قبيل ذلك إعلانه عن أن الحضارة الإسلامية انقطعت لإنتاج الإبداع الديني فقط، وذلك من خلال الموروث الكبير الذي تركته في إدارة الواقع من دون الاشتغال على التنمية والتطوير والتقدم، وإذ أثار هذا الطرح حفيظة بعض المتابعين والمعنيين الذين رأوا فيه انبهاراً بحضارة الآخر، فقد كان ل"الحياة"هذا الحوار معه. وأنت ترى السُلطَة على امتداد التاريخ الإسلامي لم تسع إلاّ لإحكام الأمر على الواقع، وأنها لم تنتج سوى قواعد ثابتة لا تعمل على التطوير، ما يتنافى مع روح التغيير والعصرنة في حياة البشر، وفي ظل العهد القديم الذي هو عليه المجتمع، فضلاًَ عن الظرف الراهن وقوى الإدارة في المجتمع وعدم صدقية التغيير الذي قد يعد من قبيل الانحراف عن مفهوم الإسلام، حيث لا يعد كونه قولَ من لا يفعل. مع ذلك كله ما تعليقك؟ - إن تركيز الحضارة الإسلامية على الإبداع في المجالات الدينية هو تركيز سائغ ومفهوم ومنطقي ويأتي منسجماً مع الأهمية المركزية للدين في حياة الإنسان، فليس غريباً أن نؤكد هذه الحقيقة وإنما الغريب أن يستنكر البعض التذكير بها، ولكننا اعتدنا أن لا نرضى إلا بأن نقول عن أنفسنا بأننا فوق الجميع في قضايا الدين والدنيا، حتى لو كنا عملياً متخلفين تخلفاً شائناً في أمور الدنيا، والذي قلته ليس استنتاجاً، وإنما هي حقيقة يؤكدها التاريخ والتراث والواقع فكيف نستنكر شيئاً نحن مغمورون به ونردده أقوالاً ونعيشه واقعاً؟! إنه لشيء عظيم أن يبدع المسلمون في المجالات الدينية لأن الدين قضية محورية في حياة الإنسان، لكن التفاخر الذي لا يمكن قبوله هو الإدعاء بأن الحضارة الإسلامية أبدعت بالمستوى نفسه في مجالات الدنيا لأن التاريخ والتراث والواقع كلها تؤكد عكس ذلك، فالإجداب في مجالات الإبداع الدنيوي ما زال شديد الوضوح، وليس تخلف المجتمعات الإسلامية، بدولها التي قاربت الستين في هذا العصر سوى شاهد ماثل على هذه الحقيقة الصارخة، وهذا لا يعني أننا زاهدون في الدنيا بل كما قال ابن خلدون:"الناس متطلعون إلى الدنيا وأسبابها من جاه أو ثروة وليسوا في الأكثر براغبين في الفضائل ولا متنافسين في أهلها"، فالقطيعة تحصل حتى بين الأشقاء بسب خلافات دنيوية، ولقد كان التاريخ ناطقاً بما حصل من صراع على السلطة وعلى الجاه والنفوذ والمال، فليس تخلفنا عن تطوير أمور الحياة ناشئاً عن زهد فيها وإنما هو المزاج الحضاري الذي لم يكن أبداً متطلعاً إلى الكشف والاختراع وابتكار وسائل ومناهج وعلوم لتنمية الحياة الدنيوية، فلم تكن هذه الاهتمامات تشغل علماءنا لا في الماضي ولا في الحاضر، إلا الذين تتلمذوا في الماضي على حضارة اليونان، أو الذين تتلمذوا في الحاضر على حضارة الغرب، لقد تخصصت حضارتنا في مجال هو أهم قضايا الوجود وهي قضية الدين، فأبدعت في ما تخصصت فيه، ولا يضرها أن تبدع حضارات أخرى في المجالات التي تشغلها وتستحوذ على اهتمامها، فيحصل التكامل بين الحضارات، إنك كفرد حين تكون من علماء الدين لا يضرك أن لا تكون طبيباً أو مهندساً أو اقتصادياً، أو غير ذلك، مما هو من الاهتمامات الدنيوية، فيكفيك أن تكون عالماً بأهم شأن من شؤون الحياة الإنسانية، وهو الشأن الديني. إذاً أنت تحصر البعد الحضاري للمسلمين في الجانب الديني فقط؟ - نعم الحضارة الإسلامية حضارة دعوة دينية، وقد تمركز اهتمامها العلمي حول هذا المحور، فكل حضارة لها اهتمام محوري، وقد كانت المسائل الدينية هي الاهتمام المركزي الذي تمحورت فيه وحوله الحضارة الإسلامية، فأنجزت من الذخائر الدينية ما لا مثيل له، ومن الطبيعي أن يصرفها هذا التمحور عن الاهتمام بتنمية أمور الدنيا. إن المجتمع الإسلامي خلال تاريخه الطويل يتكون من ثلاث فئات: فئة أهل السلطة وهؤلاء كانوا مشغولين بالغزو وحفظ الأمن والدفاع عن سلطتهم وفئة العامة ومعهم القصاص والوعاظ، وفئة الفقهاء والعلماء وأئمة الدين، وهؤلاء قد انقطعوا للعلوم الدينية، كعلوم القرآن وعلوم الحديث وعلوم أصول الدين وعلم الفقه وأصوله، وغيرها من العلوم الإسلامية التي امتازت بها حضارتنا، بل حتى الاشتغال بعلوم اللغة كان التأكيد يأتي دائماً أن هذا الانشغال بها هو من أجل فهم الدين وخدمته، وحتى الاهتمام بجمع الشعر وروايته وتدوينه، كان يأتي مصحوباً بأنه من أجل خدمة القرآن وفهمه، حتى الذين اشتغلوا بالفلسفة والعلوم العقلية كانوا في الغالب مدفوعين بخدمة الدين فإذا كان ابن رشد هو أشهرهم، فإن كل كتبه - باستثناء شرحه لأرسطو - كانت تستهدف البرهنة على أن النقل لا يخالف العقل، وأن تشريعات الدين عظيمة ليس فقط بمعيار النصوص وإنما أيضاً بمعيار الفلسفة والعقل، وفي العصر الحاضر ما زالت علوم العصر خارج بنيتنا الوجدانية فمزاجنا الحاضري مزاج ديني، لذلك قرأنا وسمعنا عن أسلمة العلوم، كما نجد الكثير من الأطباء والمهندسين يتخلون عن مجالات تخصصاتهم ويتفرغون للدعوة، وحين يؤلفون في الطب والهندسة يحاولون صبغ البحوث بصبغة دينية، فالطابع الديني هو طابع شديد الوضوح وهذا شيء عظيم إلا إذا أدى إلى إفقار المجالات الدنيوية فإنه يكون ضاراً لأنه لا عزة للإسلام إلا إذا ارتقت حياة المسلمين وتعززت دنياهم. وما قلته ليس جديداً بل هو معروف على مدى التاريخ فابن خلدون يجعل أحد فصول مقدمته الشهيرة هكذا: الفصل السابع والعشرون في أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية بل أكثر من ذلك يعقد ابن خلدون فصلاً بعنوان: الفصل السادس والعشرون في أن العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب، كما يؤكد بمنتهى الوضوح أن العرب غير مغامرين بل يبحثون عن السهل فيعقد فصلاً بعنوان الفصل الخامس والعشرون في أن العرب لا يتغلبون إلا على البسائط. وإن عظمة الإسلام هي التي رفعت شأن العرب ولولاه لبقوا شعباً بدائياً، فالشعوب الأخرى منذ آلاف السنين شيدت حضارات أقامت دولاً، أما العرب فقد بقوا الأمة والدولة حين انطلقوا داعين إلى الله وجدوا حضارات قائمة حكموها وأفرغوا اهتمام وطاقة العلماء الذين دخلوا في دينهم في مسائل الدين، وبذلك صار تراثهم الديني زاخراً، لكنهم لم يهتموا بتطوير الدنيا، بل على المستوى العملي اهتموا بالفتح والجباية، أما العلماء فكان همهم المحوري بأن تسترشد الدنيا بالدين وتلتزم به وتساس بأحكامه، لذلك لا يفوت ابن خلدون أن يؤكد أن صلاح الآخرة هو الغاية من الحضارة الإسلامية فيقول: ومقصود الشارع بالناس صلاح آخرتهم، فوجب بمقتضى الشرائع حمل الكافة على الأحكام الشرعية في أحوال دنياهم وآخرتهم، ويقول: والخلافة حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به. وينبغي أن نعرف أن حضارتنا ركزت على هذا الجانب فلم يهتم علماؤنا وأئمتنا بتنمية الحياة الدنيوية وإنما اهتموا بإصلاح الحياة الدينية وبضبط الدنيا بالدين من أجل الحياة الأبقى ومن هنا جاء القول بأن حضارتنا هي حضارة دينية إلى درجة أن الإمام الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين كان يزدري الفقهاء لأن الفقه ليس انشغالاً خالصاً بمسائل الدين وإنما يخالطه انشغال بمسائل الدنيا. هناك من يرد عليك بالأثر الذي تواتر من قبل والذي يخلص إلى أن الإسلام دين ودنيا؟ - يجب أن يفرق بين الإسلام كتعاليم وقيم ومبادئ وتشريعات وبين واقع المسلمين في الماضي والحاضر، فالإسلام كعبادات وشعائر بقي يمارس بعناية، أما أمور الدنيا فلم يتح لتعاليم الإسلام أن تخالط النفوس وأكبر دليل على ذلك أنه على رغم أن السياسة أو السلطة السياسية من أخطر المسائل فإنها لم تنل اهتمام علمائنا، فنحن بقينا من دون فكر سياسي، بينما الحضارة الإغريقية منذ القرن الخامس قبل الميلاد أنجزت في مجال الفكر السياسي وربطه بالأخلاق، ولا يزال يثير الإعجاب والدهشة، وما دام علماؤنا لم ينجزوا شيئاً في أهم قضية دنيوية، فإنه لا يمكن القول إنهم أنجزوا أشياء مهمة في مجال تنمية الفكر الدنيوي وكيفية تنمية الثروة العامة والخاصة ولا كيف يمكن تسخير الأشياء وتفجير طاقاتها الكامنة. مع دقة الاهتمام من العلماء والمآثر التي أنجزوها، ألا يعني كل هذا أنهم نظموا أمور الدنيا بشكل شمولي وإحاطة صحيحة؟ - إن فقهاء الإسلام اعتنوا بأحكام المعاملات وبكل ما يتعلق بالدنيا من أجل تحديد كيف تدار الدنيا بإنصاف وعدل، وكيف يدرأون الظلم عن الناس وهذا الاهتمام هو جزء من اهتمامهم بالدين وليس من أجل الدنيا، ولا بد أنك تدرك الفرق بين الاهتمام بضبط الدنيا بالشرع، وبين العمل على تنمية الدنيا وتقديم الأفكار من أجل تطوير وسائل الحياة وفتح العقول على الإمكانات الهائلة المخبوءة في الأشياء، فالفقهاء اهتموا بضبط الواقع بتعاليم الإسلام لكنهم لم يهتموا بتنمية الواقع وتطويره والفرق هنا فرق نوعي. وماذا إذاً عن العلماء والفلاسفة مثل ابن الهيثم وابن رشد والخازن وجابر بن حيان وغيرهم؟ - هؤلاء العلماء الفلاسفة من المسلمين الذين تتلمذوا على الفكر اليوناني كانوا خارج النسق الثقافي العربي السائد وكانوا يسمَّون النوابت تحقيراً لهم ونفياً لمجالات اهتمامهم، أي أن الثقافة السائدة كانت تعتبرهم مثل الأعشاب الضارة التي تنبت وسط الزرع النافع ولقد قرأت عشرات الكتب عن هؤلاء فوجدتهم جميعاً تتلمذوا على الفكر اليوناني وكانوا أفراداً متناثرين ولم يكونوا يشكلون تياراً في المجتمع، فكل فرد هو نتاج ذاته وليس نتاج مدرسة ممتدة في السابق ولا مستمرة في اللاحق وإنما هم نشازٌ على الثقافة السائدة وهذه حقيقة شديدة الوضوح وحتى الذين أشادوا بفضل العرب على الغرب كانوا يؤكدون هذه الحقيقة في الوقت نفسه.