مدينة الأمير عبدالله بن جلوي الرياضية تستضيف ختام منافسات الدرفت    البريد السعودي يصدر طابعاً بريدياً بمناسبة اليوم العالمي للطفل    أمير الشرقية يفتتح أعمال مؤتمر الفن الإسلامي بنسخته الثانية في مركز "إثراء"    الدفاع المدني يحذر من الاقتراب من تجمعات السيول وعبور الأودية    تهديدات قانونية تلاحق نتنياهو.. ومحاكمة في قضية الرشوة    لبنان: اشتداد قصف الجنوب.. وتسارع العملية البرية في الخيام    مذكرة تفاهم بين إمارة القصيم ومحمية تركي بن عبدالله    الاتحاد يخطف صدارة «روشن»    دربي حائل يسرق الأضواء.. والفيصلي يقابل الصفا    انتفاضة جديدة في النصر    ارتفاع الصادرات السعودية غير البترولية 22.8 %    برعاية ولي العهد.. المملكة تستضيف مؤتمر الاستثمار العالمي    بركان دوكونو في إندونيسيا يقذف عمود رماد يصل إلى 3000 متر    «التراث» تفتتح الأسبوع السعودي الدولي للحِرف اليدوية بالرياض    المنتدى السعودي للإعلام يفتح باب التسجيل في جائزته السنوية    جامعة الملك عبدالعزيز تحقق المركز ال32 عالميًا    لندن تتصدر حوادث سرقات الهواتف المحمولة عالمياً    16.8 % ارتفاع صادرات السعودية غير النفطية في الربع الثالث    «العقاري»: إيداع 1.19 مليار ريال لمستفيدي «سكني» في نوفمبر    «التعليم»: السماح بنقل معلمي العقود المكانية داخل نطاق الإدارات    «الأرصاد» ل«عكاظ»: أمطار غزيرة إلى متوسطة على مناطق عدة    صفعة لتاريخ عمرو دياب.. معجب في مواجهة الهضبة «من يكسب» ؟    «الإحصاء» قرعت جرس الإنذار: 40 % ارتفاع معدلات السمنة.. و«طبيب أسرة» يحذر    5 فوائد رائعة لشاي الماتشا    في الجولة الخامسة من دوري أبطال آسيا للنخبة.. الأهلي ضيفًا على العين.. والنصر على الغرافة    في الجولة 11 من دوري يلو.. ديربي ساخن في حائل.. والنجمة يواجه الحزم    السجل العقاري: بدء تسجيل 227,778 قطعة في الشرقية    السودان.. في زمن النسيان    لبنان.. بين فيليب حبيب وهوكشتاين !    مصر: انهيار صخري ينهي حياة 5 بمحافظة الوادي الجديد    «واتساب» يغير طريقة إظهار شريط التفاعلات    اقتراحات لمرور جدة حول حالات الازدحام الخانقة    أمير نجران: القيادة حريصة على الاهتمام بقطاع التعليم    أمر ملكي بتعيين 125 عضواً بمرتبة مُلازم بالنيابة العامة    ترحيب عربي بقرار المحكمة الجنائية الصادر باعتقال نتنياهو    تحت رعاية سمو ولي العهد .. المملكة تستضيف مؤتمر الاستثمار العالمي.. تسخير التحول الرقمي والنمو المستدام بتوسيع فرص الاستثمار    محافظ جدة يطلع على خطط خدمة الاستثمار التعديني    الإنجاز الأهم وزهو التكريم    نهاية الطفرة الصينية !    أسبوع الحرف اليدوية    مايك تايسون، وشجاعة السعي وراء ما تؤمن بأنه صحيح    ال«ثريد» من جديد    الأهل والأقارب أولاً    اطلعوا على مراحل طباعة المصحف الشريف.. ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة يزورون المواقع التاريخية    أمير المنطقة الشرقية يرعى ملتقى "الممارسات الوقفية 2024"    «كل البيعة خربانة»    مشاكل اللاعب السعودي!!    انطلق بلا قيود    تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين ونيابة عنه.. أمير الرياض يفتتح فعاليات المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة    مسؤولة سويدية تخاف من الموز    السلفية والسلفية المعاصرة    دمتم مترابطين مثل الجسد الواحد    شفاعة ⁧‫أمير الحدود الشمالية‬⁩ تُثمر عن عتق رقبة مواطن من القصاص    أمير الرياض يكلف الغملاس محافظا للمزاحمية    اكثر من مائة رياضيا يتنافسون في بطولة بادل بجازان    محمية الأمير محمد بن سلمان تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش    "الحياة الفطرية" تطلق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    قرار التعليم رسم البسمة على محيا المعلمين والمعلمات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جمع محاضراته في كتاب "الإسلام والتاريخ" . عبدالله العروي : كثيرون من فلاسفتنا فقهاء لا يكترثون للمتغيرات والثنائية واقع تاريخي لا يرقى إليه الشك
نشر في الحياة يوم 09 - 04 - 1999

في ربيع 1997، قدّم المؤرّخ المغربي عبدالله العروي سلسلة من المحاضرات في باريس، في إطار "كرسي معهد العالم العربي" الذي يستقبل أسماء مرموقة في دراسة تاريخ العالم العربي وعلومه الإجتماعية والسياسية.
وفي شهر آذار مارس الماضي، صدر كتاب عن دار نشر "البان ميشال" يضمّ المواضيع التي عالجها عبدالله العروي في المحاضرات الباريسية تحت عنوان "الإسلام والتاريخ"، وذلك ضمن مجموعة تخصصها الدار لأعمال "كرسي معهد العالم العربي"، ويديرها فرانسوا زبال.
في كتابه الجديد، يضع مؤرّخ المغرب العربي نتاج المؤرخين الرسميين المسلمين في تيار التاريخ العالمي العام، ويقدّم منظوراً جديداً عن التاريخ كما يفكّر به مؤرّخ اليوم، وعن الإسلام كما "يفصّله أو يقطّعه الباحث المعاصر في نسيج الحوليات العالمية التي لا تكفّ عن التوسّع والتعمّق في نهاية القرن الحالي". وفي لقائه مع "الحياة" خلال زيارته الأخيرة الى باريس، عرض عبدالله العروي نظرياته الأساسية في هذين الموضوعين.
وما يلي نصّ الحوار:
أليس من الصعب معالجة موضوع واسع جداً كموضوع الإسلام حيث الديانة تختلط بالمجتمع والثقافة؟
- يتعلّق الأمر بقضية تحديد المفاهيم فلذلك عندما أتطرّق الى أي موضوع، أبدأ دائماً بمحاولة تحديد المفاهيم التي استعملها. وعموماً. عندما أتكلّم عن الإسلام أنبّه الى أنني لا أتعرّض الى الإسلام كعقيدة فليست عندي الرغبة ولا التكوين الضروري للكلام عن الإسلام من ناحية العقيدة، بل أنني أنظر اليه فقط كدائرة تاريخية واجتماعية.
وبما أن العالم الإسلامي، أو المجتمعات التي اعتنقت الإسلام كدين هي متعدّدة ومتغيّرة فأُلّح على أنني لا أتكلم بكامل الدقّة إلا عن المجتمعات التي أعرفها عن كثب أي المجتمع المغربي وأضيف الجزائر وتونس. أما ابتداءً من ليبيا أو مصر فأتحفّظ في كثير من أحكامي وفي كثير من التحليلات التي أتقدّم بها.
وحتى في هذا الكتاب الذي أسميته "الإسلام والتاريخ"، قلت في البداية أنني أعتمد على مراجع تخصّ الإسلام المغربي أي الأندلس تاريخياً، وأن مؤرخين من المشرق أمثال قسطنطين زريق أو عزيز العظمة أو البرت حوراني الذين يعتمدون على مراجع أوسع أو مراجع مختلفة عن تلك التي اعتمدها سيصلون الى استنتاجات مختلفة. إنه أمر أصرّ عليه وهو أنني أتكلّم عن الإسلام كدائرة اجتماعية في بقعة جغرافية معيّنة.
ممارسات وتشابهات
بما أن كل مؤرّخ يستخدم مراجع محدّدة تأخذ بالضرورة نظرة مختلفة، فلن نصل في النهاية الى تاريخ موحّد؟
- هذه نقطة، ولكن القضية هي التالية: إن اتخذّنا موقفاً يهدف الى الوصول الى حقائق مطلقة كما يفعل البعض، فلا يمكننا أن نصل الى نتائج موحّدة، ولكن، إذا حاولنا فقط أن نصل الى توافق أو تفاهم موقت حول مواضيع محدّدة فالأمر ممكن. إن اخترنا على سبيل المثال موضوعاً محدّداً كالممارسات في المجتمعات التي نسميها إسلامية وزدناه تحديداً إن ركّزنا على فترات معيّنة، فيمكن حينئذ، على المدى القصير والبعيد، أن نبحث في الممارسات في بلد ما ثم في بلد آخر ثم في بلد ثالث... وبعد ذلك أن نقوم بالمقارنة.
فربّما نرى بعض الممارسات المختلفة وربّما نُمسك بعض التشابهات، ويمكن أيضاً أن نتّفق على النقاط. تصوّري لو طرحنا القضية بالنسبة لتاريخ الصين مثلاً أو بالنسبة للحضارة الأوروبية، فسنصل الى النتائج ذاتها.
المشكلة عامة وليست خاصة بالإسلام، فإما أن لا نقول أي شيء أو نعتمد على الفقهاء ليقولوا ما هو الإسلام كما يجب أن يكون، أو أن نصل الى نتائج مدقّقة نتّفق عليها مؤقتاً في انتظار بحوث أخرى إما تزكّيها وإما تنقضها جزئياً أو كلياً.
عندما يُطرح موضوع الإسلام في الكتابات الغربية، توجد غالباً في الخلفية الفكرة بأن "الإسلام هكذا" وكأن الموضوع شامل...
- منذ ثلاثين سنة تقريباً، أكتب ضدّ هذه الفكرة، وأوّل من نقضته من هذا الجانب هو المستشرق المتوفي الآن، غوستاف فون غرونباوم، الذي وضع كتاباً تُرجم الى الفرنسية والى العربية حول الإسلام في القرون الوسطى ثم الإسلام في القرون الحديثة حيث يأخذ أمثلة من اليمن، من أندونيسيا، من المغرب، من مصر، من لبنان... ويكوّن هكذا فكرة عامة عن الإسلام. فقلت هذا لا يجوز ولا يمكن.
وبالفعل، حتى اليوم، عندما يأتي الى فرنسا شخص من موريتانيا مثلاً ويقول شيئاًًً، يأخذ الصحافي الكلام ويؤكّد "هذا هو الإسلام"! إنني لا أقبل هذا المنطلق، وكل ما أقوله هو أنه يجب التمييز بين منظور المؤرّخ ومنظور الفقيه أو الفيلسوف أو ما أسمّيه الفقيه - الفيلسوف لأن كثيراً من الفلاسفة عندنا هم في الواقع فقهاء.
فنظرة الفيلسوف والفقيه تستهدف المطلق وله الحق في ذلك، ولكن المؤرّخ لا يمكنه أن يستهدف ذلك لأن صناعته مبنية على دقائق متغيّرة أو ما يسميه ابن خلدون تبدّل الأحوال.
وبما أن الأحوال في تبدّل مستمرّ، من الجسم الإنساني الى الأفكار والمعتقدات، نرى هذا بكل وضوح في بلدان لها تاريخ طويل كالعراق أو كمصر أو كالشام، كيف يستطيع المؤرّخ المتخصّص أن يميّز في أي ظاهرة - في اللهجة، في النطق، في اللباس... - بين ما هو إسلامي وما هو سابق للإسلام؟ من هنا ظهرت مدارس مختلفة، بعضها يقول إن كل ما نراه اليوم، في مصر أو في لبنان أو في العراق، هو إسلامي لأنه بدأ مع الإسلام. وهناك مدارس أخرى تقول أنه يوجد قسم كبير لا علاقة له بالإسلام وإن كان قد بقي حيّاً حتى تحت حكم الإسلام.
من جهتي، لا أتّخذ أي موقف من هذا أو ذاك ولكنني أعتبر أنه لا بدّ للمؤرّخ أن يتقيّد بالمنظور الثاني القائل بأن الأشياء تتبدّل وأن يأخذ بالاعتبار مراحل التبدّل، ويترك الفيلسوف يقول ما هو المصري الحقيقي وما هو اللبناني الحقيقي وما هو العراقي الحقيقي، كيفما كانت هذه الحقيقة.
بين الدنيوي والديني
ومن كتابك الأخير، يظهر أن هذا التفرّع الثنائي، بين الدنيوي والديني، موجود منذ زمن بعيد، منذ كتابات المؤرخين المسلمين الأوائل؟
- هذا هو رأيي. أقول أنه لا يمكن للمؤرّخ أن يكتب إلا انطلاقاً من هذه الثنائية. على سبيل المثال، نعرف أن الخليفة لم يكن يحكم المسلمين فقط بل جماعة المسلمين وجماعة غير المسلمين. ونرى هذه الثنائية، الإسلام وغير الإسلام، على جميع المستويات: في الصناعة، في الدولة، في الأدب...
هنالك شعر يقوله المسيحي وشعر يقوله اليهودي وشعر يقوله المسلم بشتّى اختلافاتهم، وكله باللغة العربية. إذاً، عندما نكتب تاريخ هذه الفترة، إما نكتب تاريخ الخلافة الإسلامية فتكون ناقصة ومحدّدة إذ ننظر الى بعض جوانب مجتمع الخلافة أي الجوانب التي خضعت مئة في المئة لقانون الشريعة والإسلام، وإما نكتب تاريخ الخلافة ككلّ وحينئذٍ نأخذ الإسلام كقسم أو كظاهرة فقط. والدليل أنه حتى من يكتب تاريخ الفقه يضطّر الى اعتبار ما يُسمّى بالعادات السابقة على الشريعة كي يرى تأثير هذه العادات على بعض الأحكام القضائية.
مسألة الثنائية أو الاختلاف هي ظاهرة بدأت مع الإسلام واستمرّت، وما أقوله هو أننا نجد عند المؤرخين القدماء قسماً كبيراً يتعلّق بالعناصر غير الإسلامية ولا يتعلّق بالإسلام لأن هذه كانت، من ناحية العدد والكمّ، أكبر في بداية الإسلام.
وبقدر ما تطوّرت المجتمعات وأصبحت إسلامية أكثر وأكثر، تضائل القسم غير الإسلامي في الكتابة التاريخية. وإن قارنا بين المسعودي وبين ابن كثيّر، نرى أن تاريخ المسعودي مليء بأمور لا علاقة لها بالإسلام أو خارج الإسلام، في أفريقيا أو آسيا الوسطى أو في الصين...، في حين أن التاريخ عند ابن كثير كلّه إسلامي.
إذاً، في رأيي، لا يجب أن نأخذ ما آلت اليه الكتابة التاريخية أيام الممالك ونعتبر أن هذا هو التاريخ الإسلامي لأننا إذا عدنا الى البداية، نجد أن النظرة كانت مختلفة تماماً. وبين الإثنين، نجد ابن خلدون.
ابن خلدون والعالمان
وبرأيك، هنا تكمن أهمية أعمال ابن خلدون؟
- أهمية ابن خلدون هي أنه عرف عالمين: عاش أيام الممالك ولكنه جاء من المغرب. من ناحية، تاريخه لا يختلف كثيراً عن تاريخ مؤرّخي الممالك الآخرين ولكن، في "المقدّمة" التي يعتبر فيها ما كُتب من قبل نرى كل ما سبق الإسلام وما تزامن مع الإسلام.
ومن هنا بدأت المقارنة التي تقدّم على أساسها بنظرياته المشهورة في التاريخ، ففي اعتباره تواريخ أخرى غير التواريخ التقليدية كما كتبها الفقهاء وأصحاب الحديث، هذه النظريات لا يمكن أن تُفهم إلا على أساس المقارنة.
ولكنك من جهة أخرى، تفرّق بين الفقهاء والمحدّثين؟
- بالنسبة لي، هناك دائماً اتجاهان: اتجاه الفقهاء واتجاه المحدّثين. هذه النقطة لا ينتبه اليها الكثيرون وهي وجود فرق كبير بين الفقيه وبين المحدّث. المحدّث لا يعتبر إلا أقوال الرسول في حين أن الفقيه، خصوصاً عندما يكون قاضياً، لا بد له أن يعتبر الواقع. الواقع يحتوي على الشرعي وعلى غير الشرعي، والقاضي يأخذ دائماً الاعتبارات هذه.
لذلك، أقول أن المؤرّخ الذي تدرّب في البداية على الفقه ينفتح الى مفهوم أوسع عن التاريخ وهذا ما حصل لإبن خلدون. كان فقيهاً وقاضياً ثم تدرّب على الفلسفة وأمور أخرى. والجديد عند ابن خلدون هو أنه فهم ضرورة اعتماد المؤرّخ على الرحلات، على الجغرافيا وعلى العادات. أتكلّم مطوّلاً عن المسعودي لأنه كان جوّالاً، فكتابات الجوّالين نقرأها الآن للترفيه ولكنها كانت، في الواقع، تخدم الفقهاء والقضاة بالطبع الذين كانوا بحاجة لمعرفة عادات الأشخاص الذين يحكمون عليهم عندما كان هؤلاء يأتون من المناطق المختلفة الخاضعة للإسلام. وأعتقد أن هناك نقطة أساسية وهي أن الدافع الذي دفع المسلمين الى التجوال لا يختلف، في الجوهر، عن الدافع الذي دفع الأوروبيين الى استكشاف الشرق في القرن التاسع عشر. لكي تحكم بمعنيين - أن تقضي وأن تحكم الناس - لا بدّ أن تعرف عاداتهم. وألاحظ هنا أن إدخال الجغرافيا الوصفية وآداب الرحلات الى التاريخ أُعتبر في القرن السادس عشر في أوروبا كإحدى مميّزات الكتابة التاريخية الإسلامية. عندما نمّس اختلاف العادات، الحكم على التاريخ يختلف، بل عندما يكون الحكم على التاريخ انطلاقاً من الحديث فقط، فطبعاً نوحّد التاريخ بكيفية قصرية.
والتركيز على الثنائية في كتابك موجود من البداية حتى النهاية: بين الحديث والخبر، بين النظرة التاريخية والواقع، المعنى والحدث، والأمّة والدولة، الإسلام والمسلمين... وكأن هناك دائماً قطبين. لماذا؟
- لماذا أركّز على هذه الثنائية؟ لأنها في نظري واقع لا يرقى اليه الشكّ. ومع ذلك، نرى الآخرين يرفضونها رفضاً قاطعاً. من هم الآخرون؟ هم من جهة، التقليديون أو الذين يقولون إن الإسلام دولة وشريعة ويريدون أن يوحّدوا قسرا الواقع والفكرة، ومن جهة أخرى المستشرقون. أستغرب دائماً هذا التوافق الضمني بين التقليديين وبين الإستشراقيين، لأن الاستشراقي عندما يأتي بنظرياته العامة عن الإسلام يعتمد على التقليدي وإذا انوجدت فكرة لا تتوافق مع نظريته فيقول بأنها دخيلة في حين يعتبر التقليدي هذه الفكرة مستوردة. ولكن، منذ البداية، منذ ابن اسحق، قام فرق بين نظرة الإخباري ونظرة المحدّث، وهذا أمر لاحظه المستشرقون دون شك وإنما لم يستخرجوا منه النتيجة الضرورية وهي أن التاريخ الإسلامي يمكن أن يُكتب من منظورين مختلفين. يقولون ان هناك نظرة واحدة هي نظرة المسلمين الممثّلة عند المحدّثين، وأما النظرة الأخرى فهي خارجة عن الإسلام.
ولكن، إذا ميّزنا باستمرار بين تاريخ الإسلام وتاريخ المسلمين، وأكثر من ذلك بين تاريخ الدعوة وتاريخ سكان الخلافة من جميع المناطق، فسنكتب من ناحية تاريخ العقيدة وهو اختصاص الفقهاء ومن ناحية أخرى نكتب تاريخ المجتمع الإسلامي وهذا من اختصاص المؤرخين. وحينئذٍ، أحكام الفقهاء لا تلزم المؤرخين إذ تنوجد في المجتمع الإسلامي نظرتان معتمدتان على أصول قديمة ومتجذّرة في التاريخ الإسلامي لا تتميّز الواحدة عن الأخرى من جهة الأصالة. ونترك النظريتين تتصارعان في الميدان الثقافي. وعلى هذا المستوى، سنصل على الأقل الى ثنائية، الفكرة بأن وحدانية التاريخ هي نتيجة وحدانية العقيدة ووحدانية العقيدة ناتجة عن التوحيد لها ما يبرّرها ولكن لا يمكن أن تُفرض على الجميع. يمكن لكلّ شخص أن يتقبّلها وله الحقّ في ذلك، ولكن ليس له الحقّ في أن يقول بأنها الفكرة الوحيدة المقبولة والتي لها أصول في الماضي.
الأصول المكتوبة
وعندما يتوجّه الموضوع الى تاريخ الإسلام الحديث المتقطّع بين دول وبين عقائد مختلفة، هل يبقى العمل على هذه الثنائية ممكناً؟
- كلا. لماذا؟ لأنني سأتجاوز منطقي كمؤرّخ وسأتكلّم كمؤرّخ وإنما عن الميدان الذي أعتبره ميداناً خاصاً برجل الكلام، بالمتكلّم. حينئذٍ، هذه المجتمعات الإسلامية المختلفة، عندما تعود الى أصولها - الأصول المكتوبة - تتخلّى شيئاً فشيئاً عن ما يميّز المجتمعات عن بعضها البعض. لنتصوّر مثلاً أن مفكّر ايراني يعود الى معتقده أو مفكّر أندونيسي أو مفكّر أفريقي...، فبقدر ما يبتعد عن خصوصيات مجتمعه، بقدر ما سيتكلم بالتأكيد كرجل عقيدة.
إنني أتصوّر وأقبل أنه سيصل الى عقيدة موحّدة على مستويات معيّنة ولا أرفض هذا التوحيد ولكنني أقول بأن هذا خاص بمتكلّم أو فيلسوف ديني أو متصوّف أي برجل عقيدة. وبالطبع انني لا أستغرب أن يصل أميركي أو فرنسي أو بولوني - كل واحد منهم - الى مفهوم واحد للعقيدة الكاثوليكية، ولكن هذا لا علاقة له بتاريخ أو بمجتمع أو بعلوم النفسانيات. هذا خاص بعلم الكلام، بالعقيدة. فلماذا أتدخّل أنا؟ فقط لأقول بأنني كمؤرّخ ألاحظ أن في أديان أخرى، توحيدية أو غير توحيدية، وفي هذا المستوى من التجريد تُطرح مسائل تتعلّق بالتاريخ.
أي ما هي فكرة التاريخ في إطار حقيقة سرمدية، دائمة، لا تتغيّر، ما هي علاقة هذه العقيدة، هذه الحقيقة المطلقة بالزمن والتغيّر؟ هذا السؤال أجده عند مفكرين بروتستانتينيين وأرثوذوكسيين ومفكرين يهود، فما هو جواب المفكّرين المسلمين على هذه النقطة؟ لغاية الآن، لم أجد الجواب لأن هؤلاء الفقهاء يهتمون بالسياسة وبالمجتمع. أرى بعض العمل في هذا الاتجاه في الهند، في الباكستان ولكنه، يقيناً، غير موجود في العالم العربي لأسباب خاصة وفي أن العالم العربي له هموم سياسية يومياً، تخلق وضعاً يمنعه عن التعالي. كما أن كثيراً من اليهود يقولون ويكتبون بأن الصهيونية كانت كارثة على الفكر الديني اليهودي لأنها منعتهم من الاستمرار في البحث عن مسائل معيّنة بسبب الإنغماس في عملية دنيوية وسياسية. ربّما، هذا ما حصل للجميع.
لفت نظري في كتابك تطرّقك الى علم الأركيولوجيا ويبدو كأنه اهتمام خاص. هل أُخذ هذا الموضوع بالإعتبار من قبل المؤرّخين العرب عامة؟
- بالنسبة لي، هذه نقطة مهمة جداً. لغاية الآن لم يحصل أي اهتمام في الموضوع، حتى في التاريخ الغربي. أوّلاً، يجب أن نقول بأن الأركيولوجيا هي نتيجة تقدّم العلوم الطبيعية، الجيولوجيا والفيزياء، الذي يمكن اعتبار بدايته في مطلع القرن التاسع عشر، عام 1800، بالنسبة للعالم كله.
وعلى رغم أنه نشأ في فرنسا وانكلترا، نجد الى الآن مؤرّخين لا يأخذون بالاعتبار الأركيولوجيا في تكنوينهم الذهني ويتعاملون مع المادة التاريخية وكأن الأركيولوجيا علم مساند فقط، يصلح للمجتمعات الطبيعية التي لم تكتب تاريخ الخ... فإذاً، لا يجب أن نستغرب بأن المؤرّخين العرب حتى الآن لم يأخذوا بالاعتبار دور الأركيولوجيا.
وهنا لا أتكلّم عنها كدراسة بل كابستيمولوجيا، أتكلّم عن فكرة الأركيولوجيا. بما أنها لا تعتمد على الشهادة البشرية، فإنها تعتمد على ما أسميه الشاهدة الطبيعية ومنطق هذه الشاهدة هو غير منطق الشاهد البشري. التاريخ البشري، عند المسلمين وغير المسلمين، من اليونان حتى اليوم، هو التاريخ المكتوب انطلاقاً من الشاهد البشري الذي يمكنه أن يكون شاهداً بشرياً ولكنه يتكلّم بقوّة أعلى منه.
الأركيولوجيا شاهدة مختلفة. عندما نعود الى تاريخ الكنيسة الكاثوليكية مثلاً، نجد أنها لم تعارض العلوم التقليدية كالطبيعيات بل العكس، وهي وجدت صعوبة كبيرة في الأركيولوجيا، مع جان فرانسوا شامبوليون وغيره، لأن الأركيولوجيا تخلق مشكلة إذ هناك شاهدة لا علاقة لها بالشاهدة البشرية. لا يمكن للمؤرخين المسلمين بالطبع أن يطرحوا هذا السؤال. وعندما أفكّر بالأسقف والمؤرّخ والمفكّر الفرنسي، جاك بوسوويه، أفكر أنه قال في القرن السابع عشر أن تاريخ العالم يعود الى خمسة آلاف سنة لأنه مكتوب في كتاب الشهادة.
وعندما نتكلّم عن نظرية الدورات عند ابن خلدون، فيجب أن لا ننسى بأن كلامه مفهوم في إطار تاريخ له خمسة آلاف سنة... لكن، إذا فهمنا ما تقوله الأركيولوجيا والعلوم الطبيعية وعلمنا أن تاريخ الكون يعود الى ملايين السنوات، فهذا الكلام لم يعد له معنى. ولكن الحكم على الكلام لا ينطبق على قائله أي أن ابن خلدون كان خاطئاً عندما ظنّ بأن عمر العالم خمسة آلاف سنة وكذلك بوسوويه، ولكن، كمؤرّخ، له ما يبرّره. إذا أخذنا الأركيولوجيا مأخذ الجدّ، ستختلف نظرتنا الى كل ما كتب عن التاريخ القديم.
ولكن، حتى اليوم، يوجد مؤرّخون في أميركا وانكلترا وفرنسا يعتبرون أن الأركيولوجيا ترتكب الأخطاء، وبالتالي فهي ليست جديّة. طبعاً، توجد أخطاء في تاريخ مصر أو في تاريخ اليونان ولكن هذا لا علاقة له بابستيمولوجيا الأركيولوجيا المتعلقة بالعلوم الطبيعية. وفي واقع الأمر، لا يمكننا القول بأن المؤرخين المسلمين متأخرون فإن كان هناك تأخر فهو مرتبط بالتأخّر العلمي أي بالعلوم الطبيعية.
ونرى أنه بقدر ما توجد آلاف الكتب التي تعتمد على الشاهدة البشرية، بقدر ما يبقى عدد المختصّين بالأركيولوجيا ضئيلاً جداً، كما أنهم لا يهتمون إلا بتخصصاتهم ولا يتدخلون في أي عمل خارج ذلك، لقد تكلّمت عن هذا الموضوع في الصفحتين الأخيرتين من كتابي، ولكنه بالنسبة لي، يشكّل الأساس.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.