لأربع سنوات، يستمر مسرح «رويال كورت ثياتر» في تبني أصوات شابة من العالم العربي ضمن مشروع تعاون مع المجلس الثقافي البريطاني. ولم يفوت المشروع سمة الربيع العربي التي طبعت عام 2011 فأوكل إلى أربعة من المسرحيين العرب الشباب ممن تعاون معهم من قبل، كتابة نصوص مسرحية قصيرة تستلهم الحدث تحت عنوان «ما بعد الربيع العربي». النصوص جاءت قصيرة لتتناسب مع طلب الجهة المنتجة التي اشترطت ألّا تتجاوز النصوص المكتوبة مدة 20 دقيقة. وهي تشي بخروج الكتّاب الشباب من سلطة العباءات التقليدية في الكتابة المسرحية. ولكن هل تجاوزت المنطقة الحالة الربيعية لنتكلم عن مرحلة «ما بعد»، كما يقترح عنوان العروض؟ يعترض محمد عطار الكاتب المسرحي السوري الذي اختير من بين الكتّاب الأربعة ليصحب العروض التي استمرت يومين على هذا التوصيف، ويعقب بقوله «لا نزال في مخاض الربيع لم نتجاوزه بعد». زملاء محمد الذين لم يحضروا وحضرت نصوصهم، قالوا من خلالها شيئاً مشابهاً، مثل كمال خلادي من المغرب الذي يتناول العلاقة بين رئيس وزراء كبير في السن وشباب البلاد الذين يطمحون إلى التغيير. وتتوقف المخرجة والكاتبة المصرية منى سليمان عند علاقة الشد والجذب بين الجيش وشباب الثورة في مصر. في نص أرّخته في أيار (مايو) 2011، عقب ثورة 25 يناير. تدور الأحداث في القاهرة، في منزل امرأة ثرية تحول إلى مركز اتصالات، يتلقى فيه المتطوعون مكالمات لتحديث قائمة المفقودين والمعتقلين والجرحى والأموات/ الشهداء. لكن الضجيج داخل البيت الناجم عن خلافات في الرأي ومن أن كل طرف يحكي من دون أن يسمعه الآخرون، بمن فيهم صاحبة البيت التي لا تفعل شيئاً للثورة سوى «البروزة». شخصيات في سيارة وقدمت أرزة خضر من لبنان نصاً عنوانه «بيروت المصنع»، ويعتمد النص على ثلاث شخصيات تلتقي في سيارة أجرة من بيروت إلى دمشق: أم شابة سورية كانت في زيارة إلى لبنان مع طفلها الرضيع لتلتقي زوجها الملاحق أمنياً، سائق التاكسي اللبناني الذي يقف ضد ما يحدث في البلد الجار لأنه سيؤثر فيه مادياً، ورجل خمسيني في زيارة ليطمئن على ابنته المتزوجة بسوري يشرح أسباب الانتفاضة ويتعاطف معها. يتلقى السائق مكالمة على هاتفه الجوال تخبره بأن الحدود السورية مهددة بالإغلاق، فيقرر التوقف عند الحدود اللبنانية وترك المرأة لمصيرها الفردي لتكمل رحلتها إلى بلدها، على رغم تدخل اللبناني الآخر الذي يقرر هو أيضاً العودة إلى بيروت خوفاً من التداعيات السياسية. النص جريء وساخر يخيم عليه ثقل العلاقة القديمة بين البلدين. والمثال على ذلك الإشارة إلى التعقيدات السياسية في لبنان «مش قادرين يشكلوا حكومة، لأنو بسوريا ما حدا فاضي يقلّن شو لازم يعملوا!». ويتقاطع نص «أونلاين» للسوري محمد عطار مع نص أرزة في الهمّ السوري، بتناوله شريحة الشباب التي تقف وراء الانتفاضة. نص شبابي بامتياز يتتبع العلاقة بين شابين سوريين يعيشان في دمشق هما شريف وعامر، وشابة سورية، سلمى، التي تعيش في باريس لاستكمال دراستها في هندسة العمارة. العلاقة بينهم تترجم من خلال رسائل متبادلة عبر الإيميلات والفايسبوك والرسائل النصية الهاتفية. يدور الحوار حول أصدقاء مشتركين اعتقلوا في التظاهرات، ويخيم موضوع الخوف على الرسائل، خوف شريف من الاندماج كلياً في الحراك. وخوف عامر كذلك الذي يعترف: «أنا من جهتي، وحتى إشعار آخر رح ضل مناضل كيبورد. بصراحة هي كل إمكاناتي». في ظل هذا الخوف يطور الشباب لغة خاصة بهم في التخاطب عبر الهاتف ليواجهوا احتمال التنصت عليهم. ينشطون على الفايسبوك فينشئون صفحات تتضامن مع أصدقائهم المعتقلين، ويتواصلون مع أهل الضحايا في علاقة إنسانية مميزة. تبدو سلمى البعيدة صمام الأمان لشابين لا يعرفان متى سيأتي دورهما لتتم إضافتهما إلى قائمة المعتقلين الذين تنشأ لهم صفحات تضامن. لا شيءَ مؤكدٌ ولا أمانَ مضمونٌ. وينتهي النص بعامر يبلّغ سلمى بحرج أن شريف اعتقل عندما خرج في تظاهرة. هذا النص يبدو راهناً، ليس لأن زمنه المفترض أسبوع من شهر نيسان (أبريل) الماضي، بل لأن تفاصيله لا تزال حية بعد شهور على كتابته. مسرحية محمد عطار تبدأ باختفاء شاب وتنتهي باختفاء شاب آخر. يلفت في النصوص المقدمة من وحي الربيع العربي، استخدام وسائل التواصل الاجتماعية وحرية التعبير وتخطيها الرقابة الذاتية التي تسم الكتابة العربية أحياناً، بما فيها الأعمال السابقة للكتّاب أنفسهم داخل المشروع المسرحي البريطاني - العربي. الملحوظة مبررة مع رفع سقف الحريات الذي تلى هذا الربيع، ويظهر في النصوص استخدام وسائل التواصل الاجتماعي التي ساهمت في نشر الحراك على نطاق واسع. مواجهة الجمهور محمد عطار الكاتب المسرحي السوري، حضر مع العروض التي قدمت في ليلتين متتالتين بأسلوب القراءة والبروفات المسرحية، وبإخراج من سايمون غودوين وأداء مجموعة من ممثلين بريطانيين. وكانت مناسبة أن يجيب على أسئلة الجمهور الشاب في غالبيته الذي شاهد له من قبل مسرحيته الأولى (انسحاب) التي قدمت في الهند ونيويورك. مع التنويه بأن الكتّاب الأربعة سبق لهم أن تعاونوا مع مشروع «رويال كورت ثياتر» والمجلس الثقافي البريطاني، وقد صدرت نصوصهم بالإنكليزية العام الماضي ضمن أنطولوجيا للنصوص المسرحية العربية الحديثة، وصدرت بالعربية هذا العام عن دار ممدوح عدوان. أسأل محمد عطار إن كان العمل مع مسرحيين بريطانيين طوال أربع سنوات من ورشات التدريب، قد غيّر من مفاهيمه في كتابة المسرح؟ يؤكد عطار تأثير الورشة الأولى التي أدارها الكاتب المسرحي الاسكتلندي المرموق دايفيد غريغ، ولا ينسى تأثير دراسته في لندن التي حصل فيها على الماجستير في المسرح. إلا أنه يشير إلى حقيقة أن «لا تغيير شاملاً حدث لي بسببها، بمعنى أنني لم أكن وفياً لأسلوب ما ثم انتقلت إلى أسلوب آخر». فتأثره بأشكال الكتابة المسرحية الحديثة بدأ منذ دراسته في المعهد العالي وبداية تجرؤه على الكتابة، وبعد اطّلاع على أشكال الكتابة والعروض المسرحية ومدارسها وتياراتها، خصوصاً أعمال الكتّاب الجدد في فرنسا وبريطانيا وحتى بعض الأسماء في الولاياتالمتحدة وأوروبا الشرقية. إن كان المشهد السياسي في المنطقة هو في حالة زلزلة لمصلحة الشباب، فهل سينسحب هذا على المشهد الثقافي أيضاً؟ وهل تراه سيقطع العلاقة مع الجيل القديم في أسلوب الرؤية والشكل، وفي استخدام العامية؟ هل سيشكل تياراً جديداً؟ يقول عطار إن الكتابة المسرحية في سورية ليست فعلاً رائجاً، ولم تستطع تشكيل مشهد قوي ومستقل: «لا أعلم إن كان من الممكن وصف المحاولات الحالية بالتيار. أفضل وصفها بالمحاولات الحثيثة والدؤوبة تقوم بها مجموعة كتاب شباب لا يزالون يؤمنون بقيمة المسرح كفاعلية ثقافية واجتماعية وسياسية». ويتابع: «قلب الطاولة سيشمل من دون شك المشهد الثقافي، والانتفاضة في أحد أوجهها هي ترميم منظومات ثقافية ومعرفية أنهكها الاستبداد، وهذا سيشمل أشكال التعبير الفني المختلفة والخروج من بعض العباءات التقليدية التي ما زالت تفرض ظلاً ثقيلاً بسبب هيمنة البنى التلقليدية وإرثها البيروقراطي الهائل. المسرح كغيره، يسعى إلى التحرر من الذائقة المهترئة».