افتتح مهرجان جبيل الدولي حفلاته بأمسية موسيقية أحياها الفنان اليوناني الأصل يانّي كريسوماليس مع فرقته ذات التنوع العرقي والثقافي. وتندرج مؤلفات يانّي في سياق ما بات معروفاً باسم"موسيقى العالم"أي تلك العابرة للجغرافيا من منطلق ثابت مفاده أن الموسيقى هي أكثر الفنون قدرة على التأثير في البشر حيثما كانوا. ولعل يانّي واحد من أبرز البراهين على صحة ذلك القول. وصل إلى الولاياتالمتحدة يافعاً ليتابع دراسته الجامعية في ولاية مينيسوتا وانجرف هناك في شغفه بالموسيقى فانضم إلى فرقة"كاميليون"قبل أن يقرر الانتقال إلى لوس أنجليس حيث ما لبث أن أصدر ألبومه الأول. بعدئذ انصرف إلى التأليف الوتري الذي أصبح في السنوات العشر الفائتة مكمن إبداعه وتأشيرة احتلاله مركز الصدارة في اختبارات الدمج ومغامرات الصهر والتأليف المميّز. أصدر يانّي في لوس أنجليس، ألبومه البلاتيني الأول عام 1990 بعنوان"تأملات في الشغف"، وبعد سنتين صدر له"تجاسر واحلم"ما رشحه لجائزة"غرامّي". وعام 1993 بدأ بث برنامجه المصوّر في الأكروبوليس حيث أدخل إلى المشهد الأثري مؤثرات الصوت والضوء عبر مستحدثات التقنية الاستعراضية الضخمة، وحاز البرنامج إقبالاً منقطع النظير لفّ شاشات الكرة الأرضية في 65 دولة شملت القارات الخمس. باع"أكروبوليس"35 مليون أسطوانة وصدرت بعده سيرة ذاتية بعنوان"يانّي بالكلمات"، وهو الكتاب الذي وضعته"نيويورك تايمز"على لائحة مختاراتها الرائجة. وتأتي زيارة يانّي وفرقته لبنان ضمن رحلة واسعة أطلق عليها عنوان"عالم بلا حدود"حطت باستعراضه في تاج محل والمدينة المحظورة في الصين. وعنها يروي يانّي لجمهوره اللبناني كيف أهداه الصينيون دبّ الباندا رمز التقدير الأعلى لديهم الذي يمنح عادة للدول وللمرة الأولى يحوزه فرد."إنه شرف عظيم ما كنت أتخيله، كانت الباندا أنثى وأطلقت عليها اسم سانتوريني أو السلام المقدس". إلا أن يانّي لم يفاخر بهذه الواقعة إلا بعد أن أعرب عن سعادته العارمة بوجوده وفرقته في لبنان:"أخيراً نجحنا! وها نحن هنا في لبنان! هذا البلد الرائع! هذه الشمس وهذه السماء وتلك الجبال! بلدكم رائع وأنتم شعب عظيم!". وبذل يانّي قصارى جهده لينطق بما تعلمه في العربية فنجح هنا وفشل هناك وهنالك!". لشخصية يانّي تلقائية خفيفة ولسجيته وتيرة دينامية تتسم بالرقة والمتانة، فهو على المسرح كأنه يعلّم رقص الباليه لأطفال، طيفيّ وظريف وعلى تواصل مرهف مع أفراد فرقته. المؤثرات الواضحة في موسيقاه تعود إلى هيكلية رخوة، قابلة للاختراق، مرجعيتها الجاز الكلاسيكي، حيث تبزغ جملة ميلودية من خليط وتري وتستقر لتصبح لازمة موزعة على مفاصل المقطوعة كما هي الحال مع الأراجيز والتراتيل. ومن أجواء المسرح الغنائي يستعير يانّي لعبة الإيهام بالدراما عبر تضخيم الرافعات الصوتية ومزجها إلى أن تستحوذ على انتباه الجمهور وتشد حبال توقعاته. وذلك ما سمعناه في مقطوعتي البدء. من هناك انطلقنا في رحلة ممتعة مع الأغنية الصامتة، أي تلك الخالية من البوح بالكلمة، حيث الموسيقى لغة تسلم نفسها إلى السمع تاركة للمستمع أن يؤلف حكايته بنفسه. وليس غريباً أن يستغرب بعضهم إطلاق صفة الأغنية على مقطوعة خالية من الكلام، بل أحياناً حتى من الصوت البشري تماماً، فكيف إذا كان يانّي يهدي أغنية كهذه إلى أمه فيليتسا التي علمته معنى الحب؟ الواقع أن اللفح اليوناني العاطفي المتمثل بموسيقى تلك الأغنية يبوح بأبعد ما يمكن أن تحتويه الكلمات، والمقطوعة التي تصهر الرقة بالحنين، والحنان بالرجاء تشي بأمر لا شك فيه: أنه مهما تَأَمْرك الفتى الهلليني الطموح يبقى دمه ملوحاً بشمس المتوسط. مؤثرات"الروك"لعبت دورها الإيقاعي المعتاد الذي دفع الجمهور إلى التصفيق كالعادة، وتمظهر تعامل الجمهور مع الفرقة في وصلات فردية تناوب على أدائها كل عازف على حدة، فكانت حصة عازف الطبول هي الأكبر... لا لجنونه فحسب بل لبراعته المذهلة مما أنهض الجميع عن كراسيهم مصفقين. عموماً، كانت فاتحة مهرجانات جبيل ناجحة وخالية من أي مشكلة، عدا التأخير في موعد الانطلاق بانتظار وصول الرسميين.