لفهم المشهد السياسي المصري الحالي واستنباط خط سير السياسة الخارجية ومنهج السياسة الداخلية واستراتيجية الأولوية الإقليمية يمكن اللجوء إلى تقنية"جي بي اس"الشهيرة. فلو كنت متجهاً جنوباً والإخوان على يمينك والسلفيون على يسارك والجهاديون وراءك، فإنك حتماً تسلك منحدر الصعود المؤدي إلى منابع النيل وعليك الحذر لأنك قد تصطدم ببناء جديد لم يدر على بال ولم يطرأ على خاطر اسمه"سد النهضة". لكن إن كنت قادماً من القاهرة ومتوجهاً غرباً صوب ليبيا، وكان السلفيون على يمينك والإخوان على يسارك والجهاديون أمامك، فإنك أمام طريق وعر قد تفاجئك أسلحته الثقيلة وقد تباغتك تطوراته المتصاعدة. وفي حال كانت وجهتك صوب الشمال الشرقي، حيث الإخوان والسلفيون على يمينك والليبراليون على يسارك والجهاديون والتكفيريون حولك، فإنك مقبل على شبه جزيرة سيناء حيث الماء والهواء والوجه غير المعروف الذي يخطف جنوداً حيناً، ويهجم على كمائن أمنية حيناً، ويباغتك من حيث لا تدري دائماً. ولأولئك الناظرين صوب غرب المعمورة، فهناك طريقان، أحدهما ممهد معبّد يؤدي نحو حلفاء الأمس القريب وأصدقاء اليوم وغير محددي الهوية في المستقبل القريب، والآخر أقصر لكنه أكثر وعورة حيث اختلاف الأيديولوجيات وتصادم المصالح وهيمنة رأس المال، ما يضع الجميع، إخواناً وسلفيين وليبراليين وجهاديين، على محك الطريق! لكن القادمين من"الاتحادية"- حيث"الإخوان"في القلب والسلفيين على اليمين والليبراليين على اليسار والجهاديين بالمرصاد - والراغبين في سلك الطرق المؤدية إلى المدن والقرى والنجوع، فإنها لم تعد تتمتع بالسيولة نفسها أو السهولة ذاتها التي كانت تتمتع بها قبل عام بالتمام والكمال. أوشك عام من المشهد السياسي المصري الجديد أن يكتمل، لكنه اكتمال فسيفسائي متنافر الجزيئات. فالعلاقات المصرية - الأميركية التي اعتقد كثيرون من السذّج في بداية حكم الإخوان أن تتحول نحو الصدام وتعرج جهة الخلاف على اعتبار أن"الرأسمالية الأميركية"لا تمتزج مع"الخلافة الإسلامية"فوجئوا بتناغم لطيف وتواؤم ظريف يجمع بين طرفي النقيض. وما كان بالأمس القريب عمالة للأميركيين وخيانة للإسلام تحوّل اليوم إلى صداقة لأبناء العم سام ودعم للإسلام. وربا الأمس القريب من صناديق الإقراض ومؤسسات التمويل الأممية ذات الميول الغربية والمصالح الصهيونية بات اليوم مصروفات إدارية من مؤسسات عالمية ذات ميول تنموية وأغراض نهضوية. وفي العمق الافريقي الاستراتيجي، ما كان بالأمس كلاماً وأفكاراً عن سد"يحمل الخير لأثيوبيا"تحوّل اليوم إلى واقع"يحمل الخراب لمصر". الإخوان الذين ملأ شعارهم الانتخابي البرلماني والرئاسي كل ركن من أركان مدن وقرى ونجوع مصر واعداً إياهم ب"حمل الخير لمصر"وجدوا أنفسهم بعد عام من حكمهم في حيص بيص. فالخير الذي وعدوا به يتحقق بالفعل، وطائر النهضة الذي شرّحوه وفصصوه يحلّق لا محالة ولكن في سماء اثيوبيا. حكام اليوم وإعلامهم يتداولون تصريحات مسؤولي النهضة الاثيوبية باعتبارها"كلمة شرف". فمصدر اثيوبي يؤكد:"لسنا أنانيين وسنراعي حقوق دول المصب"و"مصر تطالب اثيوبيا بتنفيذ وعدها بعدم الإضرار بنصيب مصر المائي وأثيوبيا تؤكد أنها ستفعل"! ولأن اهتمامات الحكم يسيطر عليها هذه الأيام تأكيد ألوية الناصر جاهزيتها للمقاومة ضد أي تصعيد صهيوني في غزة، ومؤتمرات دعم الثورة السورية، والاتفاق بين حماس وفتح على إطلاق الحريات في غزة، على اعتبار أن اثيوبيا وعدت بعدم تعطيش مصر والمصريين، فقد حاد البعض من بين صفوف حلفاء الأمس القريب عن نهج التأييد المستمر والدعم المستقر. فجزيئات المشهد الإسلامية ليست متطابقة، بل متنافرة. وبدلاً من الباص الواحد الذي كان يشحن الأهل والعشيرة والحلفاء والمناصرين من الإخوان والسلفيين لتأييد قرارات الرئيس تارة ومحاصرة المنشآت المستعصية على الأخونة تارة أخرى، انفصل الركاب ووضحت الخلافات. وما ظنّه البعض صراعاً موقوتاً ينفجر بعد أربع سنوات على كرسي الرئاسة بين الجماعة والحلفاء من الأحزاب والجماعات الدينية، انفجر قبل الأوان. فأوان خطف الجنود في سيناء، والإمعان في تسليح الجهاديين عبر الأسلحة المهربة من ليبيا، والخلاف المكتوم حول أنفاق غزة ومعابرها، والدعوات التسويقية الانتخابية بالتوجه إلى القدس"شهداء بالملايين"حيث يتم إعلانها عاصمة للولايات العربية المتحدة، وتمديد الترخيص للملاهي الليلية، و"صديقي الوفي بيريز"وغيرها عجّلت من أوان المواجهة، وإن ظلت مكتومة! لكن المشهد المصري برمّته أبعد ما يكون عن الكتمان، بل العكس هو الصحيح. وعلى رغم أجهزة ال"جي بي اس"وخرائط الطريق التي تم رسم بعضها في الخارج حيث"الشرق الأوسط الكبير"أو"الجديد"والطرق الكثيرة المتناثرة يميناً ويساراً، ينضح المشهد بفوضى عارمة بعضها خلاق لكن أغلبها هدام. هدم الزواج العرفي القائم بين الإخوان والسلفيين في المشهد يستخدم تارة كفزاعة إخوانية تنتهج نهج مبارك، فمن"أنا مبارك أو الإخوان"إلى"نحن الإخوان أو السلفيين". ومن مشروع إسلامي يوحّد فرقاء الساحة الدينية إلى انكشاف للمشهد حيث لا أبيض أو أسود في السياسة، بل ظلال متفاوتة ومتغيرة لا يقبل بها أنصار بياض الشريعة وأعداء سواد العلمانية. ويكاد جهاز ال"جي بي اس"ينفجر تحت وطأة تداخل الطرق وتنافر المنحنيات والتحولات المفاجئة والحادة، ليس فقط في مجرى النهر، ولكن في مسار السياسات والتحالفات. ففوج ثان من السياح الإيرانيين وصل مصر رغم أنف السلفيين، وأصوات سلفية متصاعدة تنتقد أداء الرئيس والجماعة، وليبراليون يفتحون أبواباً ل"التمرد"ونصف أبواب للتحالف مع الخارجين من جنّة حلفاء الحكم. والجميع يركض على طرق مصر وشوارعها تارة في اتجاه صحيح لا يلبث أن ينحرف، وتارة في طرقات وعرة غير معلومة النهاية، ودائماً الجميع يتشابك ويتداخل لدرجة تقف معها أعتى أجهزة"جي بي اس"عاجزة عن فك طلاسمها، وذلك بعدما وضع المصريون قاعدة جديدة في تشغيل نظام تحديد البوصلة التي تختلف باختلاف المشغّل، إخوانياً كان أو سلفياً أو جهادياً أو ليبرالياً!