الأمير محمد بن ناصر يفتتح شاطئ الهيئة الملكية بمدينة جازان للصناعات الأساسية والتحويلية    نائب رئيس نيجيريا يغادر جدة    غداً "رينارد" يعقد مؤتمراً صحفياً عن مواجهة الأخضر والبحرين    هاتفيًا.. ولي العهد يطمئن على صحة ملك المغرب    الشؤون الإسلامية بجازان تنفذ ورشة عمل بمحافظة صبيا    %20 من المستثمرين شاركوا في الاكتتابات العامة بالمملكة    مدير عام الشؤون الإسلامية في جازان يتفقد مسجد العباسة الأثري بمحافظة أبي عريش    وزارة التعليم تنظم ورشة عمل "المواءمة مع التغيير والتحول في قطاع الخدمات المشتركة" في جازان    قمة منتظرة تجمع الهلال والنصر غداً السبت .. في ممتاز الطائرة    تعرف على قائمة المتوجين بلقب كأس الخليج    لدراسة أجندة المرحلة الانتقالية.. سورية على موعد مع حوار وطني شامل    إمام الحرم المكي: الرسل بعثوا دعاة إلى الخير وهداة للبشر    آل بنونة وآل قاضي يتلقون التعازي في حورية    خطيب المسجد النبوي: أعظم وسام يناله المسلم أن يكون أحبّ الناس إلى الله    الدفاع المدني السوري: «تماس كهربائي» أشعل نيران «ملعب حلب»    البدء بأعمال صيانة جسر تقاطع طريق الأمير نايف مع شارع الملك خالد بالدمام ... غدا السبت    (عيد) أفضل حارس للبطولة الخليجية الأولى والثانية    تراجع أسعار الذهب 2596.89 دولارًا للأوقية    توقعات بتساقط الثلوج على تبوك    الخطوط السعودية ووزارة الإعلام ترفعان مستوى التنسيق والتعاون المشترك    لسرعة الفصل في النزاعات الطبية.. وزير العدل يوجه بتدشين مقر دوائر دعاوى الأخطاء المهنية الصحية    رئيسا «الشورى» والبرلمان الباكستاني يبحثان تعزيز التعاون المشترك    رغم المخاوف والشكوك.. «سورية الجديدة» تتحسس الخطى    خير جليس يودّع «عروس البحر» بتلويحة «جدّة تقرأ»    كأس العالم 2034.. السعودية ترسم مستقبل الرياضة والشراكات العالمية    5 إستراتيجيات لإنهاء حرب روسيا وأوكرانيا    دروس قيادية من الرجل الذي سقى الكلب    الحصبة.. فايروس الصغار والكبار    مدربون يصيبون اللاعبين    تقطير البول .. حقيقة أم وهم !    328 سعودية ينضممن إلى سوق العمل يومياً    الإخلاء الطبي يشترط التأمين التعاوني للممارسين الصحيين    الدفاع المدني يؤكد ضرورة إطفاء النار الناتجة عن الفحم والحطب قبل النوم    استغلال الأطفال على منصات التواصل الاجتماعي يهدد صحتهم النفسية والاجتماعية    بحضور تركي آل الشيخ ... فيوري وأوسيك يرفعان التحدي قبل النزال التاريخي    النصر ومعسكر الاتحاد!    تمارا أبو خضرا: إنجاز جديد في عالم ريادة الأعمال والأزياء    إبراهيم فودة.. الحضور والتأثير    رسائل    تفسير المؤامرة    واقع جديد    25 ألف سعودية يثرين الأسواق الناشئة    التأمين يكسب .. والعميل يخسر    «سكن».. خيرٌ مستدام    السعوديون في هيثرو!    مشاعل الشميمري: أول مهندسة في هندسة الصواريخ والمركبات الفضائية في الخليج العربي    مستشفى الدكتور سليمان الحبيب بالفيحاء ينقذ مراجعاً عانى من انسداد الشرايين التاجية    أدوية إنقاص الوزن قد تساعد في القضاء على السمنة لكن مخاطرها لا تزال قائمة    انفراد العربيّة عن غيرها من لغاتٍ حيّة    أمير القصيم يرعى ورشة عمل إطلاق التقرير الطوعي لأهداف التنمية المستدامة في بريدة    السيسي: الاعتداءات تهدد وحدة وسيادة سورية    التجارة تضبط 6 أطنان مواد غذائية منتهية الصلاحية بمستودع في جدة    صحة الحديث وحدها لا تكفي!    وصول طلائع الدفعة الثانية من ضيوف الملك للمدينة    وزير الدفاع يستقبل نائب رئيس الوزراء وزير الدفاع الأسترالي    د. هلا التويجري خلال الحوار السعودي- الأوروبي: المملكة عززت حقوق الإنسان تجسيداً لرؤيتها 2030    رئيس الوزراء العراقي يغادر العُلا    أمير تبوك يستقبل مدير فرع وزارة الرياضة بالمنطقة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الثورة الإسلامية الإيرانية و "الروحانية" السياسية
نشر في الحياة يوم 19 - 06 - 2013

دعتني إلى الاهتمام بإيران قراءتي كتاباً قديماً أثناء نقاهة من وعكة صحية، هو كتاب إرنست بلوخ"الرجاء أصلاً". ويعالج مسألة جوهرية هي ابتداء رؤية جماعية للتاريخ في أوروبا، في العصر الوسيط، لا تقصر العالم على الأشياء والوقائع الملموسة والكتابة بل تجيز، داخل زمننا وتاريخنا، فتحة ضوء أو بصيص نور يطل، من هذا العالم، على عالم أفضل وخير منه. هذه الرؤية هي في آن منطلق فكرة الثورة، وفكرة دينية. فالجماعات الدينية، خصوصاً الفرق الدينية الصغيرة هي التي اضطلعت، أواخر العصر الوسيط وأثناء عصر النهضة، بفكرة فحواها أن الدنيا تنطوي على ما قد يكون انقلاباً عليها. هذه المسألة استوقفتني، وأظنها صحيحة.
وبينما كنت أقرأ هذا الكتاب، كانت الصحف تذيع كل يوم أخبار ايران، وتعتبر إن ما يحصل هناك هو انتفاضة، لا تقودها أيديولوجيا ثورية غربية، ولا يقودها حزب سياسي ولا منظمات سياسية، بل هي انتفاضة جماهير وشعب ينهض كله على نظام حكم. ويؤدي الدين والهيئات الدينية، والتمثيل الديني، في هذا كله دوراً راجحاً.
أردتُ أن أرى بأم العين حوادث إيران، وأمتحن ما كنت أقرأ في كتاب إرنست بلوخ الذي يتناول علاقة الثورة السياسية بالرجاء والآخرة الدينية. وفي طهران التقيتُ من في مستطاع غربي أن يلتقي: الأوساط الجامعية في العاصمة، بعض الطلاب الشبان والشابات الناشطين في الثورة يومها، وبعض الشخصيات التي تولت في ما بعد مناصب سياسية مثل الدكتور كاظم سامي وزير الصحة في وزارة بازركان. وفي قم التقيتُ شريعتمداري. وفي عبادان حاورت فريقاً صغيراً من العمال. وفي طهران التقيتُ بعض الموظفين من إدارات متفرقة، ولم أشهد شيئاً مما كان يحصل في المحافظات.
معظم الآراء التي سادت أوروبا، أو فرنسا، يومذاك، زعمت أن الثورة هي وليدة تبدد الثقافة الإيرانية وتحللها تحت وقع نظام الشاه الديكتاتوري، والتصنيع المستعجل، والتخبط السياسي. وأدى اجتماع هذه العوامل وتضافرها إلى اضطلاع الإسلام بالمصطلح الذي مكن الشعب الإيراني من التعبير عن مطالبه السياسية والاجتماعية. وهذا الرأي يخلص إلى أن الإسلام قام محل ما كان يتوقع أن يقوم به حزب ثوري على المثال الغربي وإيديولوجيا ثورية... وأظن أن هذا الرأي خاطئ. فالإسلام لم يكن مجرد وسيط أو حامل تطلعات وإيديولوجيات تبطن في قراءتها غير ما تظهر، وتحسن التعبئة حيث يفشل غيرها. وأظن أن هذه الحركة العريضة والشعبية تدين بقوتها إلى إرادة سياسية ودينية معاً، وتشبه بعض الشبه ما كان يحصل في أوروبا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر حين وقف المعمدانيون في وجه السلطة السياسية، واستمدوا القوة ولغة انتفاضاتهم من معتقد ديني عميق وصادق. هذا ما حاولت قوله.
أنا تكلمت على الإرادة العامة أو الواحدة في إيران. الإرادة العامة في مرآة الأوروبي وتجربته، هي على الدوام في صورة انتداب وتكليف أو مصادرة يتولاها الطاقم السياسي والمنظمات السياسية والقادة. وأحسب أن ديغول، في 1940، مثَّل فرنسا، لكن إرادة الفرنسيين العامة أو الواحدة لم تجمع عليه. ولا شك في أن تمثيله فرنسا كان ظاهرة مأمولة سياسياً، ومثمرة تاريخياً، على رغم أن الوقائع لم تكن على هذه الصورة. وفي ديموقراطياتنا قلما يكون الشعور بالأمور على صورة الإرادة العامة أو الواحدة. والجماعات السياسية التي تزعم تمثيل التطلعات العميقة للسكان، وامتلاك هذا التمثيل، يداخلها كثير من البيروقراطية والزعامة والمراتب ومصادرة السلطة.
في مقابل ذلك بدا لي، عن حق أو باطل وربما أخطأت الفهم تماماً، أن الإيرانيين، في أيلول سبتمبر 1978، حين نزلوا إلى الشارع وتصدّوا للمدرعات لم يكرههم أحد على النزول، ولم يحلوا محل أحد يملك هويتهم ويتصرف بها، بل كانوا هم أنفسهم، وهم لا يريدون هذا النظام الجاثم على صدورهم. استوقفت هذه الظاهرة الناس جميعاً، في كل ايران، مدنها وأريافها. وما ينبغي مناقشته هو موضوع الإرادة، ويمكن ربما القول: لم يعودوا يريدون هذا النظام، وعلى هذا الرفض أجمعوا. المسألة تختصر في هذا.
أظن، وقد أخطئ الظن، أنهم كانوا يريدون فعلاً شيئاً آخر. وما كانوا يريدون أو يضمرون، على وجه الدقة، لم يكن نظاماً سياسياً آخر، ولا نظام ملالي. ما أرادوه في أعماق رؤوسهم وقناعاتهم، حين كانوا يغامرون يومياً بأنفسهم في تظاهراتهم، ما أرادوه يشبه رؤيا خلاص اليوم الآخر. والشكل الذي نزعت إليه هذه الإرادة العامة والواحدة، وتصورت فيه، لم يكن شكل إرادة دولة أو منظمة سياسية بل شكل ذاك الخلاص. فهو ملهم قوة الحركة، ومصدر إرادتها وشكلها. والحركة لا تختصر في رفض النظام القائم، ولا يختصر السبب في الوقوف في وجهه، في القرف من الفوضى والفساد والهدر والشرطة والمذابح. صورتها الجامعة هي رؤيا خلاص.
كتبتُ إلى مهدي بازركان مجلة"لونوفيل أوبسرفاتور"، 14-20 نيسان- أبريل 1979، وقلت له إن ما يحمل على التحفظ ليس نعت"الحكومة"ب"إسلامية"، بل هو شعار"الحكومة". فبين"حكومة"و"إسلامية"قد تكون ثمة مصالحة أو تناقض أو عتبة جديدة. وأنا أرى في العبارة كثيراً من الالتباس. وحين سألت سامي كرماني، وبازركان وشريعتمداري وآخرين عما يعنون بالعبارة، أجابوا أن ما يريدونه هو هذا الصنف من الحكومة. ولم يتعدوا هذا الجواب إلى ما يوضحه. وضمانات شريعتمداري لم تكن مطمئنة: فليس القول"سنحترم الأقليات"، أو"سنتسامح ونقبل الشيوعيين"، داعياً إلى الاطمئنان، بل أحسب أنه مدعاة قلق. وحين تكلم الناس على صفة الحكومة، أرادوا عموماً الكلام على صورة اجتماع غير سياسية، على طريقة عيش مشتركة لا تشبه شكلاً من أشكال البنيان السياسي الغربي.
الأرجح أن القيام بهذا المثال ليس في المتناول. وما يرجح أن ينتهي الأمر إليه هو حكومة يتولى قيادتها العلماء ومدرسو الحوزات. وكلامي على التناقض بين الشيء والعبارة، أو على إمكان عتبة جديدة، قصدت به السؤال: هل يمكن لشيء على هذا المقدار من الالتباس والغموض، وقد ينتهي إلى الوقوع في أيدي العلماء والمدرسين، أن يصاغ منه شيء آخر مختلف؟ وهل تتيح الظروف والضغوط السياسية والاقتصادية والعسكرية والديبلوماسية لإيران فرصة صوغ حل يستجيب رغباتها؟ يبدو لي أن آراء عمال عبادان وشريعتمداري وبازركان، إلخ، كانت تشترك في فكرة واحدة حين كانوا يتكلمون على"حكومة إسلامية"هي محاولتهم صوغ أشكال اجتماع مشترك، أشكال مساواة اجتماعية، ليست على النمط الغربي. وربما كان هذا الاجتماع المشترك والجديد مجتمعاً من غير دولة، ولو في صورة غامضة جداً ومختلطة بالضرورة.
هذا الأمل الذي لمسته في ما قيل لي هناك وتأكيد الناس أن الإسلام يضمن فوق ما تضمنه أشكال الديموقراطية الغربية وتوازناتها الدقيقة والمحسوبة، يشبه، شكلاً، ما يقع عليه المرء في القرن السادس عشر الأوروبي. يقودنا هذا إلى ما أثاره كلامي على"روحانية سياسية"من انفعالات غير معقولة في فرنسا، وخروج الناس هنا عن طورهم. وبعض الصحافيين نسب إليّ تأييد الإعدامات التي طاولت هذه الجماعة الدينية أو تلك، والموافقة على عمل المحاكم، إلخ. وأنا لا أفهم هذا الجنون ولا أجد له تفسيراً. ما قلته هو أن ما وجدته في إيران شيء يشبه التماس روحانية سياسية، وأن هذه العبارة الغامضة اليوم في فهمنا كانت مفهومة وأليفة في القرن السادس عشر الأوروبي.
وأنا لم ألتمس يوماً، لنفسي، روحانية سياسية، ولا أسعى إلى بلوغها. قلت: رأيت هناك حركة شعبية غريبة، لا تشبه ما أعرفه وعرفته، ولا أظن أن تعليله على مثال سابق يقود إلى فهمه على حقيقته. والمثال العظيم على روحانية سياسية هو الكالفينية. ليست معتقداً دينياً، وليست نظاماً دينياً، بل هي علاقة فردية بالقيم الروحانية، وإرادة تجسيد هذه العلاقة في السياسة. هذا ما كان في الغرب، وما بدا لي أن ما يشبهه حصل في حركة 1978 في إيران. وخالف هذا ظني.
* فيلسوف فرنسي 1926-1981، عن"روديو"الفرنسية، 2/2013، اعداد منال نحاس


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.