تعتبر بغداد عاصمة الموسيقى العربية قبل الأندلس ومهد المقام، وقد سُجَل المقام العراقي في التراث الثقافي العالمي اللامادي لمنظمة يونسكو منذ عام 2003. وكان لهذا الفن العراقي علمان في القرن العشرين هما محمد القبانجي 1901-1989 ويوسف عمر 1918-1987. أما في يومنا هذا فيعتبر حامد السعدي"أحد المغنين النادرين وربما الوحيد المتحكم بكل أشكال المقام العراقي"، كما يصفه اختصاصيون في الموسيقى. وقدم السعدي وفرقته الموسيقية دخيل أحمد وأمير الصفار وصباح كاظم وأحمد دخيل حفلتين لمقام بغداد على مسرح معهد العالم العربي في باريس، ضمن"مهرجان المتخيّل"الباريسي في دورته السابعة عشرة. ويسعى هذا المهرجان الذي تنظمه سنوياً"دار ثقافات العالم"التي يرأسها شريف الخزندار وتديرها أرواد اسبر، لتقديم الإنسانية في تنوعها الثقافي وتعابيرها الفنية الأكثر غنى وندرة في محاولة لمنعها من التهميش وربما من الاختفاء. وتجدر الإشارة إلى أن المقام العراقي فن كان يغنى في المقاهي والأمسيات الخاصة، وأوشكت الحرب وما تبعها على القضاء عليه، فقد تفرق المؤدّون والموسيقيون في كل مكان من العالم، لكن بعضهم كحامد السعدي لم يترك العراق إلا لفترة قصيرة. وهو صاحب صوت قوي ذي حساسية فريدة يجمع بين"زئير الأسد وترنيم العندليب". دفعه شغفه بالشعر العربي، وبالأخص الحماسي والبطولي، نحو المقام العراقي. ففي هذا الفن"تقرأ القصائد ولا تغنيها"كما يقول ل"الحياة". تأثر السعدي سماعياً بيوسف عمر، كونه لم يدرس المقام على يديه. لم يكن مستمعاً عادياً، بل كان يقارن بين طرق أداء قراء عدة ليأخذ الجيد ويصوغه بأسلوبه الخاص. حين بلغ الرابعة والعشرين كان بمقدوره قراءة المقامات الستة والخمسين بأكملها. لم يكن هذا بالأمر الاعتيادي، ما جعله يحظى بإشادة القراء وحفزه عام 1982 على التقدم للمشاركة بحفلات يوم الجمعة للمتحف البغدادي. إلى أن سنحت له الفرصة وللمرة الأولى، خلال حفلة له في المقهى البغدادي التراثي، لالتقاء القبانجي وعمر. أدّى حينها المقام الأصعب والأندر"الحليلاوي"فأشاد الفنانان به واعتبره القبانجي"أفضل حلقة لتواصل المقامات العراقية في سلسلة المراحل الزمنية"، وكرسه عمر"خليفته من بعده". ونسأل السعدي عما تختلف به المقامات العراقية، فيجيب:"الأداء يختلف من مقام إلى آخر ولا يمكن القارئ الارتجال أو التصرف كما في القدود الحلبية أو الأدوار المصرية. يبدأ بالمقدمة الموسيقية ثم تقرأ أبيات من الشعر بنغم التحرير نغم المقام الأصلي، تليه قطع أو وصلات نغمية مغناة، ثم الجلسة وهي حركة نغمية مصحوبة بالنزول إلى قرار النغمة، فالميان وهو الصعود بطبقة عالية حادة بعد مقدمة موسيقية. بعدها يتدرج القارئ بأبيات من الشعر إلى أن يصل إلى التسليم وهي آخر مرحلة". وبعد هذا الجو المقامي"المعقد"تأتي"البستة"للتخفيف، وهي تعبر عن قصة تمثل حدثاً ألمّ بالأمة أو الفرد. ويعتبر السعدي أن ناظم الغزالي أشهر من عرَف"بالبستة"الملحقة بالمقام، وأن الغزالي هو"بين القارئ والمغني لأنه جدد في الأداء ولم يتبع تماماً المدرسة التقليدية في أداء المقام". حين ذهب السعدي إلى لندن في 1991 لإحياء حفلة، قرر البقاء لصعوبة الأحوال في العراق بسبب الحصار. هناك اتجه نحو"الأداءات الدينية المرتبطة بالمقام العراقي ارتباطاً وثيقاً". وبعد عودته إلى العراق قبل ست سنوات، أخذ يشارك في بعض المهرجانات خارجه كمهرجانَي المدينة في تونس وجرش في الأردن. كما أقام خمس حفلات في فرنسا وسويسرا بدعوة من"دار ثقافات العالم". اليوم في بغداد ما زال جمهور النخبة هو رصيد المقام العراقي على رغم جهود السعدي لجذب البقية عبر اختيار المقامات السهلة والقصائد المفهومة. وهو لا يخشى على بقاء المقام لكنه يخشى ابتعاد الناس عنه. ويلوم المؤسسات الثقافية التي لا تعنى بتوجيه الصغار وتعويدهم من الصغر على هذا الغناء وتعريفهم به بدلاً من هذا"الضجيج"الذي يسمعونه ويجعلهم يرون الغناء التراثي"غريباً". كما يعتبر أن"أغلب المعاهد الموسيقية لم تخرَج قراء مقام بل موسيقيين وأساتذة"، وحين نسأله هل هو معروف كما يجب في العراق يرد:"بزوالي تزول الخزينة التي لدي لتدريس المعلومات"، ويضيف مبتسماً:"أضاعوني وأي فتىً أضاعوا!".