أسند ظهره إلى جدار محطة القطار القديمة، واتكئ برأسه على الكلاشنيكوف. شعر بخدرٍ يسري في أطرافه، بدت السماء شديدة القرب. نفذت إلى صدره رائحة التراب المبلل بالمطر. منذ ثلاث ساعات وهي تمطر، وها هي السماء تنكفئ على ذاتها وتسحب الخمار الرمادي من على وجهها. وعلى مسافة خطوات، كانت سكة القطار تستريح كأنها جزء من الطبيعة. إنه يعرفها جيداً. أمضى طفولته بالقرب منها، ينقب عن الجميزة النامية، ويختبر مهاراته في التوازن عليها. وفي هذا المكان بالضبط، كان يصغي إلى همس الكون الخفي بعد هروبه من حصة الرياضيات. يستلقي على الأرض الحمراء، ويرسل بصره إلى تلك الزرقة الواسعة، ويغيب في عوالم بعيدة، مليئة بأسرار لا يستطيع الوصول إليها أحد، حتى والدته التي كانت تجنّد كل شباب القرية لالتقاطه. ضغط على خصره حيث اخترقت الرصاصة كبده، وأخذ الدم ينزّ ويسيل على التراب البارد، وتلوّن الدم بالزرقة الداكنة التي صبغت السماء. قبل ساعات، أمطرهم ألف جندي بشتى أنواع الرصاص والقذائف الثقيلة. مئتا طلقة فقط في مخزن كل منهم. وأربع عشر طلقة في مخازن المسدسات المتدلية على خصورهم. حين خرجوا إلى الاشتباك، ابتسم وهو يقول: إنّ الرصاص الذي نملكه يستشعر الإيمان العميق في صدورنا، يحمل كل بسمات من نحب ورعشاته وخوفه، لذا يتولد من العدم. ضحك الجميع، وأجابه خالد أصغر أفراد المجموعة وهو يتحسّس أطراف بندقيته: لا حاجة إلى كل تلك الكلمات لتبعث العزيمة فينا، نحن مجموعة من المجانين يا أبو عبيدة وليس أكثر من ذلك. أطالوا التحديق إلى العدم، المجهول المخيف الذي يبتلع رهبة الرجال. طوال ست ساعات. كان الصمت هو دليلهم في جوف الليل المظلم. قبل أربعة أيام، وعندما كان يتحدث مع الصحافي الذي قدم إلى منطقة البلد للحديث معه، كان يقول له: أن تخرج إلى الموت وأنت تعي ذلك الفرق الكبير في القوة، يعني أنك تؤمن بما تقوم به، وذلك هو الاختبار الحقيقي للإيمان. ليس بالمعنى العقائدي إنما بذلك الإدراك البسيط. أنا لست مقاتلاً، ولن أكون كذلك يوماً، لكن المجموعة التي أنتمي إليها والتي نقوم من خلالها بعمليات ضد القوات الأمنية، تشبه الحضرة. ذلك النوع من التصوف الذي يجعلك تتماهى بمن يشاركونك الحضرة لتصل إلى تلك القوة العميقة الغائرة في صدرك، وذلك ما لم يستطع أن يفهمه أحد. استشهد جميع أفراد مجموعته، وفي العتمة تحسس ملامح وجوههم الملتصقة بالتراب. ومن حوله حرث الرصاص الأرض بفجوات صغيرة. بدأ المطر بالهطول وبلل يده المرتجفة. لقد عرف أحدهم. مرر يده على شفته. إنه خالد بملامح وجهه الناعمة. شعر بابتسامته الساخرة على وجهه. لامس شعره الناعم المسترسل على جبهته العريضة. كان الدم قد بلّل خصلات شعره وسال على التربة. أحنى شفتيه وقبّل رأسه وسالت دموعه المالحة بغزارة المطر الذي أخذ يشتدّ كاشتداد الرصاص. ارتفعت الشمس أكثر، وانقشع الدمار الذي خلفه الاشتباك، ومن على خط الأفق لاحت أرتال الجنود الكثيفة تقترب منه. إن أصعب ما شعر به في تلك اللحظة، أنّه تمنى أن يكون ذات يوم على خطوط الجبهة الأمامية وهو يحارب العدو، لكنه استشعر صرامة القدر الذي رماه الآن، قرب كل تلك الذكريات الحميمة، وهو يحمل"الكلاشن"ويوجهه إلى من تشاطر معهم الهواء والماء ذات يوم. وفي تلك اللحظة التي حاول أن يرفع"الكلاشن"، انهال الرصاص عليه مرة أخرى ودرز أطراف جسده، حينها عاد طفلاً صغيراً يمارس هوايته في التوازن على أطراف سكة القطار... وهو ينظر إلى السماء الواسعة، هرباً من حصة الرياضيات الثقيلة والموجعة كحرّ شهر قائظ.