يخترق باب حجرتي باتجاه نافذتي المفتوحة عن آخرها. كان قطاراً من ذلك النوع الذي يعمل بالفحم. ويتوقف - في رواحه ومجيئه - امام أماكن بعينها حددت له، كي يعبأ - خلال خراطيم كتانية واسعة - بالماء. يروح يتحرك بعدها هنا وهنا، مسافراً، وهو ينفث دخاناً كثيفاً وقاتماً. ظل قائد القاطرة ومساعد له يلوحان لي اثناء تقدمها الحثيث ناحية فراشي الملاصق للحائط تماماً، أسفل لوحة زيتية كبيرة لامرأة متعبة، ذات قصة شعر مجنحة، تجلس على مقعد خشب مبطن بقماش ضاعت ألوانه عن آخرها، وتشبعت انسجته بذرات تراب ناعم، فيما راحت ظلال رأسها المتداخلة، تحاول جاهدة، ايقاف زمن ينسال عبر خيوط ساعة قديمة فوقها، يتجه عقرب قرصها المصنوع على هيئة سهم، ناحية نقطة في منتصف مفرق شعرها المجنح. ظن الرجل ومساعده - في ما اعتقد - اني ألوح لهما - انا الآخر - مرحباً، فاندفعا يعملان على زيادة سرعة القاطرة القادمة نحوي الى مداها، وهما يتضاحكان ويتراقصان على دوي صفيرها المنغم. رحت اتخيل انهما حين يلمحاني ألوح لهما، سيعملان قدر استطاعتهما على ايقاف القاطرة المندفعة في اللحظة المناسبة، غير اني كورت نفسي لاعناً غباء الرجل ومساعده، راجياً ألا تدهسني عجلات قطارهما المندفع. اكتشفت - اثناء تكوري - ان مساحة كبيرة من ركبتي وجبهتي باتت عرضة للهرس، تحت وطأة حركات ذراع حديد ضخمة، تربط بين عجلات القطار، فآثرت الوقوف آسفل اللوحة، معطياً ظهري للقطار العابر حجرتي، وانا التصق بحائط مباشرة. كانت السماء - وقتها - تمتد من وراء النافذة، رحبة ورائقة لا يعكر صفاءها غير سحابات صغيرة راحت تركض - من حين الى حين - بفعل ريح، تراقصت على وقع هبوبها، ملابس معلقة فوق حبال شرفة أخيرة في الجهة المقابلة. مدت المرأة أصابع كفها ناحيتي، وراحت تتحسس ملامحي وشعر رأسي الواقف من الرعب. قالت: أنت. ونهضت من فوق مقعدها المبطن بقماش ضاعت ألوانه وتشبعت انسجته بذرات تراب ناعم مغادرة اطارها الداكن وهي تضمني. * قاص مصري.