دامت الحرب اللبنانية 1975 - 1990 دهراً. الوقت يُقاس بالأيام والأعوام ولا يُقاس بالأيام والأعوام. القاعد في ملجأ مظلم - وأتربة السقف تتساقط على خبزه وطعامه وغطائه ? ليس القاعد في مكتب تنيره الشمس يشرب الماء النظيف ويقرأ ويكتب ويسمع رنين الهواتف. الحياة غريبة. واذا انكسر السلم وهاجت الحرب بوحوشها على البشر أضاع الإنسان الوقت العادي وغرق في وقت الكوابيس الذي لا تُعرف له بداية ونهاية. أبناء الملاجئ والحروب الأهلية وانقطاع الكهرباء والماء والطحين، أبناء أزمنة الخطف والذبح والقصف والهجمات والهجمات المضادة، ليسوا أبناء عالم عادي. الحرب صورة جهنم. متى انقلب الانسان ذئباً. واستباح الآدمي دم جاره الآدمي. الحرب جهنم. ثلاثون سنة انقضت على 13 نيسان ابريل 1975. الذين صعدوا بالرشاشات الى بوسطة عين الرمانة وأطلقوا النار على الركاب العائدين من احتفال طويل، من كانوا، وأين يحيون الآن؟ في هذا اليوم الربيعي، بعد 30 سنة على ذلك اليوم الربيعي، ماذا يتذكرون؟ هل يتذكرون شبابيك البوسطة الزجاج تفرقع؟ هل يتذكرون الدم ينوفر من الصدور والوجوه؟ الأحزمة القماش القديمة لرفع النوافذ قطعها الرصاص. عمود الحديد الممتد أسفل النوافذ تمسكت به القبضات. الأيدي المرتجفة تتمسك بالأنبوب البارد الطويل ثم ترتخي... باغتهم الرصاص. دوى بين النوافذ، تحت السقف المنخفض، وأنهى حياتهم. الرصاصات الفارغة تقرقع على أرض البوسطة، وعلبة مرطبات فارغة تتدحرج بين الأقدام والوجوه. ثلاثون سنة انقضت على ذلك اليوم الأسود، والبوسطة التي دخلت فم الوحش ما زالت عالقة فيه. لا يخرج ميت من موته. ولا يقوم. علقوا في ذلك الوقت الأسود وظلوا عالقين. الحي يتذكر اليوم موتاه ويحزن. لكن حزنه اليوم أقل من حزنه قبل سنين. الحزن لا يدوم. يدوم ولا يدوم. الحياة غريبة. تكر الأعوام ونتغير. أجسامنا تتغير. وجوهنا تتغير. شعرنا يتغير. لا نبقى نحن. تعبر الأعوام علينا فنصير آخرين. أنت لست أنت. ابن 1975 ليس ابن 1990 ليس ابن 2005. 15 سنة حرب. و15 سنة سلم. ولا أحد يعلم ماذا يخفي المستقبل. الأعوام تبدلنا تبديلاً. لم تقتلنا الحرب. نجونا. نتغير ولا نتغير. الشحم ينقص أو يزيد على رقابنا وأطرافنا. لكن هيكل العظم هو هو. اكتمل نموه في سنوات الشباب، هذا الهيكل العظمي، وبعد اليوم لن يتغير. لعله ينكمش في سنوات الشيخوخة. اذا أتت الشيخوخة. وعندئذٍ نطوي ساقي البنطلون الى الداخل مثل العجائز في قصائد اليوت وننزل الدرج الطويل لنتنزه على طريق البحر بكنزة صوف وقبعة صوف على الشعر الذي ابيض وتساقط. نعبر على الرصيف العريض قبالة فندق فينيسيا ونتذكر ما جرى ها هنا قبل سنوات بعيدة. تمرّ الأعوام على شباط فبراير 2005، والذي يبقى على قيد الحياة يتذكر آخرين لم يبقوا معنا. في الحرب نموت. وبلا حرب نموت. لكن الحرب وقت سريع. وقت يحترق احتراقاً. في شهر واحد من الاقتحامات والرعب وعمليات التهجير ونسف البيوت نقطع قرناً كاملاً. في ليلة واحدة من القصف المدفعي، أمام صورة واحدة من صور الموت العنيف، نقطع عقداً من السنين، وتبين التجاعيد في جبهاتنا. الحرب وقت أفلت من عقاله. البرج الذي رفعته شهور من الكد يقع في ساعة. المدينة التي بنتها عصور متعاقبة تحترق في سنة، تتهدم في سنتين، والأعشاب البرية تعربش على أطلالها. تسرح الكلاب والقطط والجرذان، وتظهر أعمدة الذبان الأسود. الطنين الفظيع، والأحياء التي تحولت غابة. الحرب رجوع الى كهوف وظلمة. شواهد الحرب في بيروت لا تُعد. برج المرّ 36 طبقة الذي لم يكتمل. قبّة سينما سيتي بالاس. أطلال الهوليداي ? إن والسان جورج. كنيس وادي أبو جميل. 15 سنة على انتهاء الحرب. وما زالت الحرب ماثلة أمام العيون. انتهت ولم تنتهِ تماماً. نقول انتهت وننظر الى السماء الزرقاء ونرفع صلاة خاشعة. نُصلي ألا نرى الوحش من جديد. نصلي ألا يفلت الوقت من عقاله. نصلي أن تبتعد الكارثة. أمواج البشر التي ملأت الساحات في الشهور الأخيرة هل كانت هي أيضاً ترفع صلاةً؟ نُصلي بين العمارات المرممة، بين الرخام والزجاج والحيطان التي تحفظ آثار الشظايا. العين المحدقة الى عمارات الوسط التجاري المتألقة ترى أثر الحرب في الجدران. الأثر لا يزول. لكن اذا كرّت الأعوام ساكنة طيبة، تقع الأمطار ثم تشع الشمس ويهبّ الهواء، تقع الأمطار مرة أخرى ثم تشع الشمس ويهبّ الهواء، تقع الأمطار أيضاً ثم تشع الشمس ويهبّ الهواء، يا ربّ، وهذه الأشجار تزهر وتتلون وتبرعم خضرة مرة تلو مرة، الأعوام تتوالى ساكنة طيبة، والوقت يصقل الحيطان، وأثر الشظايا يزول. الوقت يصقل الأشياء. يمحو ويصقل ويصلح... ويمحو. المهم ألا تقع الكارثة. أن نبقى على وجه الأرض. ألا نتساقط على الأدراج، راكضين الى أقبية وملاجئ وكهوف، بينما الحيطان ترتج والصراخ يعلو. نُصلي أن ننسى تلك الأزمنة، أن ننسى الوقت الأسود، وألا نحيا يوماً آخر في أزمنة الخراب. الخارجون من حروب لا ينسون الحروب. الخوف يقيم في بواطن النفوس، يسكن الأعماق السحيقة، يخفي نفسه عن العيون، لكنه يبقى. كالدودة في الشرنقة. كالسوسة في قلب الشجرة. الوسواس فظيع. نُصلي ألا يغلبنا الوسواس. نُصلي طرداً للخوف. نُصلي طلباً للتوازن والحياة الكريمة. ما أصغر الانسان. ما أقسى الساعة. في ساعة الفزع، في ساعة الكارثة، كيف نحفظ التوازن؟ طبيب النفوس ينصحك بالركض، بالنزهة على شط البحر، بالشوكولا، لرفع معنوياتك. الرازي أعطى مرضاه قبل قرون النصيحة ذاتها. لم يذكر الشوكولا. لكنه ذكر النزهة واللعب مع الأصحاب ومرق الديك المعمول باللبلاب. الرياضة والصداقة والطعام... طلباً للتوازن. الجاحظ دلّنا الى القراءة. المسعودي والغرناطي وابن جبير ينصحون بالأسفار والتنقل الجولان والسياحة، يكتب ابن بطوطة. بينما تمشي مشياً سريعاً يسعى الاندورفين هورمون السعادة في عروقك. الظلمة تغادر عينيك. قلبك يبتهج. التوازن، التوازن. الكتابة رياضة نفسانية. بينما تكتب، بينما القلم يجري على الصفحة البيضاء، بينما الكلمات تتساقط زرقاء على هذا السهل الأبيض، تعلم أنك تركض. ها أنت في الأعماق، تسلك الممرات الخفية، ترى وتسمع، الهواء على البشرة، العرق على الرقبة، والبحر الذي يرتفع صوب المدينة... تركض في الأعماق وتعلم أنك هنا ولست هنا، في هذه العصور وفي العصور الزائلة. كل العصور زائلة. قتلت الحرب اللبنانية مئة ألف انسان وأخفت في الظلمات 17 ألف مخطوف. اختفت الأبدان وبقيت الأسماء. الذكريات أيضاً باقية. والحكايات. كل هؤلاء البشر. قصص لا تحصى. وجوه ومسرات وأحزان. روايات واقعية ? خيالية. الأشياء لا تزول. تركد كالوحل في الأعماق. ننزل الى اعماقنا فنعثر عليها. واذا انفجرت سيارة ملغومة على هذ الكوكب السابح في الفضاء ارتجفت أعماقنا واختض الوحل الراكد. صدى الانفجار يتردد بين عمارات المدينة لعله خرج من التلفزيون، لعله الرعد الربيعي، لعله انفجار قارورة غاز، لعله خرق جدار الصوت، لعله.... صدى الانفجار يتردد في الجمجمة العظم، والعينان تعتكران في لحظة. في لحظة تطلع الظلمة من الأعماق وتغمر شاشة العينين. نُصلي من أجل التوازن. نتعلم أن نقبل الوحل والخوف والوسواس. نُصلي ونسير ونأكل ما يُنبته التراب. نقرأ ونكتب ونحارب نوبات الفزع ونشرب الماء النقي النظيف ونقول يا ربّ. هذا فصل الربيع. أشجار الفاكهة تشعشع بالزهور. زهور الكرز بيضاء. زهور الدراق حمراء ضاربة الى الزهري. السماء نقية الزرقة، والغيمة القطن البيضاء السابحة فوق الجامع العمري الكبير تزيد السماء زرقة. هذا الأزرق العميق الساطع. ماذا يدفع الانسان الى التحول ذئباً تحت هذه السماء؟ دانتي أفزعته الطبيعة البشرية. كافكا صمم آلات تعذيب وهو يصارع خوفه. الاثنان أبصرا الجحيم في بطن هذا العالم. والاثنان حاربا اليأس والوسواس بالقراءة والكتابة. كانا يكرران - في عصرين متباعدين - سيرة هوميروس القديمة: من قلب الظلام، من العمى المطبق، تخرج مدن وسفن وجزر وجماعات وسهول وغابات كاملة. الخيال يُنقذ.