جلسوا القرفصاء على أرض الزنزانة. اللهب الصغير يرقص على الجدار كالألسنة الحمراء تمد أطرافها وتتحسس الأركان، تصعد على الباب الصامت الموصد كأنها تُحاول الخروج من الحصار، تتسع وتنكمش في حركة مستمرة قلقة من الهجوم والارتداد، من الارتفاع والانخفاض، كأن صراعاً يدور بينها وبين الظلام. هكذا يجلسون دائماً لصنع الشاي بعد ساعة"التمام". الليل زحف ليلف الكون بغطاء أسود تخترقه النجوم، تُبرق في السماء الواحدة بعد الأخرى كالمصابيح تُضاء. يصمت الضجيج بالتدريج في ترتيب يتكرر، حركة الأقدام الحافية ثم رنين الأواني وبعدها أصوات الكلام. الحديث يدور مع حركة الأصابع تصنع لفافات التبغ، ووميض"العين"المشتعلة تنتقل بين أيديهم في الظلام، وأكواب تحمل السائل الأسمر المنعش إلى الشفاه. بياض العمائم والعيون يلمع عند ثلاثة مستويات، فلا تُخطئ اليد عندما تمتد بكوب من الشاي أو لفافة من التبغ. الكلمات تتردد واضحة النبرات، مشحونة بالغموض، والحديث ككل شيء في حياتهم لا يتغير، يحكمه منطق أعمى فرضته الحياة، قالب موحد رتيب لا فكاك منه. لكن في تلك الليلة لم يكن ككل الليالي التي قضوها سوياً منذ خمس سنوات حتى أصبح كل منهم يعرف الكلام قبل أن يُقال، ويعرف رد الفعل من حركة لليد، أو إيماءة للرأس، أو نظرة في العينين. ثلاثة رجال جمعهم مصير واحد لظروف مختلفة يحكمها منطق واحد."إبراهيم"جسم طويل، أسمر، منحوت، ورجل صامت على الدوام، من إحدى قرى الصعيد، من قرية كمئات القرى الممتدة على جانبي النيل، مختلفة لكنها واحدة، البيوت والناس، والقوانين الصارمة للحياة. الأرض يشقها سلاح المحراث، ويهبط إليها ماء التابوت، ويرتفع فيها اخضرار البرسيم والفول."عبدالغني"من الغربية، قصير مربع الجسم، هادئ، يحفظ المواويل، يُرددها بصوت عذب وحزين عندما يأتي الليل. وپ"مصطفى"اسكندراني"، خفيف الحركة ثرثار. في تلك الليلة كان محور الحديث"إبراهيم". غاب ثلاثة شهور ثم عاد. كان يعمل في مزرعة السجن عند حافة الصحراء. لا أحد غيره يستطيع أن يشق الأرض بالمحراث في خطوط مستقيمة كالحبل المشدود، ولا أحد يروح ويجيء بتلك الخطوة البطيئة، طوال النهار، من دون أن يتوقف لحظة، أو يتبادل كلمة مع الآخرين. لكن منذ ثلاثة شهور عندما ترددت صفارات انتهاء العمل واصطفت آلاف الرؤوس قرب الأرض وجدوا العدد ينقص واحداً ساعة"التمام". أعادوا الحصر من جديد في هدوء، فمثل هذا الخطأ معتاد، ثم كرروا الحصر مرات عدة. لكن التمام ظل كما هو ينقص واحداً من النزلاء. بدأت موجة الاضطراب تزداد، وارتفعت أصوات الحراس بالصياح. انهالت العصي في غضب عاصف على الأكتاف والأجسام إلى أن أوقفها البروجي وهبطوا بالموكب الأزرق إلى القفص الضخم الرابض قرب الصحراء. ظلت الزنازين مستيقظة. صوت المفاتيح يصرخ في سكون العنبر، وخطوات تجري في الحوش. نداءات الحراس يتردد صداها، ثم يموت بعيداً في الفراغ لتلتقطه نداءات أخرى، ونُباح الكلاب عالٍ يختلط بدبيب الحوافر المسرعة تخفت بالتدريج كلما أوغلت بعيداً في الظلام، وكشاف أبيض كالعين المجنونة يلف ويدور أعلى الجدران. قرب الفجر رقدت الأجسام فوق الأسرّة وأُغلقت العيون لتنام، ما عدا أربع عيون كانت تعرف أن الرجل الثالث لم يعد موجوداً. في اليوم التالي ظلت الأبواب مغلقة، لكن الأخبار انتشرت بتلك الطريقة المبهمة الواضحة عبر أسلاك لا تُرى، تمتد من باب إلى باب، ومن حجرة إلى حجرة، من فتحات الأفواه إلى فتحات الآذان بلغة أقرب ما تكون إلى لغة الحيوان أو الطيور. هكذا عرفوا أنه عند طرف المزرعة وُجد أحد الحراس وقد شُجّ رأسه، أن جسده راقد فوق الرمال، والدماء تجف تحت لفح الشمس فتتحول إلى دوائر وخيوط قاتمة. ظلوا جالسين على أرض الزنازين، والعيون تتطلع إلى العيون أو تتفاداها، أو تتبادل تلك الرسائل التي يُشع منها وميض الأمل في أن أحدهم أفلت، أو يُطل منها الخوف بأن أي حركة، أو أي صوت يصدر عنهم سيُطلق تلك الكوامن من القسوة والجبروت التي ترقد في كل ركن من أركان السجن الكبير، ظلوا كالجالسين على مخزن من الديناميت. قرب آخر النهار اهتزت الأسلاك الخفية بذلك النبأ الذي جعلهم يلتقطون الأنفاس"الحارس لم يمت". عادت الحياة إلى مجراها. الأبواب تُفتح ليخرجوا إلى المزرعة. يعودون. يأكلون ويتبادلون لفائف التبغ، وأكواب الشاي على ضوء اللهب المنبعث من وعاء صغير وضعوا فيه الزيت وفتيلاً من القطن. عادت إلى مجراها في كل الزنازين ما عدا زنزانة"إبراهيم"، فقد أتاها نزيل جديد، والنزيل الجديد حدث يحمل معه رائحة العالم الذي غابوا عنه منذ سنين. مع تكرار الأيام نسي الاثنان ثالثهما"إبراهيم"، فحياة السجن كالمحيط الرمادي اللون تبتلع كل شيء ليغرق تحت سطحها الرتيب. بعد أن مرت ثلاثة شهور، أو أكثر، أو أقل، في أمسية من تلك الأمسيات التي تأتي وتنقضي، فُتح الباب ودخل أحد الحراس. أشار إلى ثالثهم بالخروج. سمعا الخطوات تبتعد ثم تقترب من جديد، ومن فتحة الباب دلف جسد طويل، ثم دار المفتاح خلفه وأُغلق الباب. تطلع إلى الداخل في سكون، كان وجهاً نحيلاً في لون التراب، ونبتاً من الشعر الأسود الغزير يُخفي الملامح، بعينين نصف مغلقتين حولهما احمرار الجفون. ظل واقفاً حيث هو، يتأرجح من ناحية إلى ناحية، كأن ساقيه تميلان من تحته. طال الصمت. ما زالا ينظران إليه في فضول. خطا خطوة واحدة نحوهما. سمعا صوته الخافت يقول"أنا"إبراهيم"، ثم سقط فوق الأرض. الحديث يدور هامساً مع الأصابع تلف التبغ في الورق الأبيض الرفيع، مع دوران العين الحمراء تُومض، مع الأنفاس، والأكواب تسكب سائلها الأسمر المنعش بين الشفاه. لكن الحديث في تلك الليلة لم يكن مثله في كل الليالي التي قضوها سوياً منذ خمس سنوات حتى أصبح كل منهم يعرف كل شيء عما سيُقال. غاب عنهما"إبراهيم"منذ ثلاثة شهور. خرج إلى العالم الواسع ثم عاد. خاض مغامرة هزت الساكنين خلف الجدران. الأسئلة كثيرة، ولا يعرفان من أين يبدآن، وپ"إبراهيم"رجل صموت، لا يجيد الكلام. لا بد أن من يصبرا عليه، أن يتركاه يفكك الخيوط، كمن أمامه شلة من الصوف يبحث عن طرفها ويُسلّك عقدها في بطء."مصطفى"الاسكندراني الثرثار، الضحوك يريد أن يعرف كل شيء، لكنه يشعر بالعجز أمام الرجل الغريب الكتوم. لماذا يظل صامتاً؟ لا بد من أن عنده ما يريد أن يُخفيه. يجلسان معه ليلتقطا منه كلمة أو جملة بين الحين والحين. يجلس بينهما وعيناه تدوران حوله. هذه الشهور الثلاثة التي عاشها أثارت فيه أشياء يُحس بها غامضة. يبحث عن الكلمات فتفلت منه كالأسماك الفضية الصغيرة التي يُطاردها الصبيّة على شاطئ البحر. طوال عمره ينتابه هذا الإحساس بأن الأمور تسير في حياته من دون أن يُدرك إلى أين، من دون أن يستطيع القبض عليها كما يقبض على المحراث، فبماذا يُجيب عما يسألان؟ إنه كالحيوان الأعجم، تضطرب في أعماقه أشياء يعجز عن معرفتها، فكيف يستطيع أن يقولها بالكلام؟ كلماته متعثرة وجمله قصيرة تُريد أن تُعبر عن قصة طويلة، عن قصة عمر عاشها بينما لم يغب عنهما سوى ثلاثة شهور بدأت بذلك اليوم الذي كان يحرث فيه الأرض بالمحراث عند أطراف الصحراء. يسمع"مصطفى"يسأل:"كيف دبرت الهروب"؟ يمرر كفّه الخشنة على جبهته العريضة كمن يُحاول أن يفيق:"الهروب...؟ هل دبر الهروب...؟"كل ما يتذكره عن هذا اليوم أنه كان يحرث الأرض عند طرفها البعيد. وقف الحارس إلى جواره يتتبعه. صاح فجأة:"يا بن الكلب اعملك همّة". سقط المقبض من بين يديه. أمام عينيه شيء كالغلالة الحمراء، وتحت قدميه فأس عريضة. الأرض والسماء ترقص في رأسه. مال وأمسك بالفأس في يد. تقدم خطوتين نحو الحارس هكذا ببطء، كأنه يحرث الأرض. يرى الذعر في العينين. ذراعه تنهال بالفأس من دون أن يحس. ضربة واحدة أرقدت الجسد على الرمال الصفراء. سالت منه الدماء. شريط للحياة يتكرر. يعود به إلى الوراء، إلى لحظة هي اللحظة نفسها، عندما أتوا لينتزعوا منه الأرض، ستة قراريط كان يحرثها. يده ترتفع بالفأس لتنهال على وجه. يجري بين أعواد الذرة كما يجري الآن فوق رمال الصحراء. جحيم يحترق تحت قدميه، لكنه لا يحس. يجري ويجري في الفضاء الممتد، بقعة صغيرة تائهة تُطل عليه سماءً كالرصاص. يجري ويجري إلى أين؟ لا يدري. يُحس أن صدره سينفجر. يسقط على الأرض تحت الشمس اللافحة. تُوقظه أشعة ساخنة حمراء تخترق الجفون. يرفع جسمه على قدميه، ويديه، وينظر حوله. يرى الصحراء تمتد حتى الأفق، مساحة صفراء ليس فيها حياة، تُطل عليها مساحة رمادية اللون. "ثم بعد ذلك؟" "بعد ذلك...؟ بعد ذلك... سار"كلمة لا تحمل المعاني التي يُريد أن يُعبّر عنها ولا يستطيع. سار ثلاثة أيام بلياليها، لا ماء ولا غذاء. سار أول الأمر بالخطوة نفسها الثابتة التي يسير بها خلف المحراث، لكن هنا لا خطوط ولا تضاريس تقود خطواته. هنا لا شيء سوى الرمال الناعمة تنغرس فيها قدماه، أو الرمال الخشنة التي تقطع في أصابع أو بطن القدم كالزجاج. هنا سماء مشتعلة، غطاء معدني تزداد حرارته بمرور الساعات. كلما أوغل في المساحات المفتوحة أحس أنها تمتد أمامه، كأن الأفق يبتعد مع الخطوات. انقضى اليوم الأول وجاء الليل. فكر في أن يستريح ولكن الصوت يهمس إليه بألا يتوقف، فربما تأتي اللحظة التي فيها إذا توقف لن يقوم. الليل يحمل معه بعضاً من الراحة. نسيم يُنعشه ونجوم، وظلام يُخفيه عن العيون. يتسلى أحياناً بعدّها، لكن سرعان ما يتوقف. لم يذهب إلى الكتّاب أو المدرسة، ولم يحتج في يوم إلى العد أكثر من عشرة يحسبها على أصابع اليد. عندما انتشر ضوء الفجر أخذ يُعاني العطش. لسانه كقطعة من الجلد المدبوغ يُحركه بصعوبة، والآلام أسفل الضلوع كوخزات الإبر. الآن خطواته تترنح لكنه يسير. الزمن يمر ببطء. لم يشعر بالزمن طوال حياته، لم يُفكر فيه. كل الأشياء كانت تجيء أو تروح من دون أن يتغير شيء. الآن يتساءل متى ينقضي النهار الملتهب ويلفه الليل ببرودة يتوق إليها. العطش يكوي أحشاءه، والألم يصعد من قدميه ويهبط على رأسه كالسكين المسنون تشقه من أعلى، وتصعد من أسفل. سمع صوتاً يسأله:"كيف وصلت"؟"كيف وصل...؟"يمرر كفه على وجهه. يُحاول أن يتذكر. لا يعرف كيف وصل. يعرف فقط أنه عند آخر المسافة كان يسير على قدميه ويديه كالكلب، ويلهث. يعرف أنه امتنع عن الرقاد على بطنه، لأنه خشي أن ذراعيه لن تقويا على رفعه ثانية. يعرف أنه لمح فجأة شيئاً كالهضبة الصغيرة عليها لون أخضر، زحف نحوها. رفع جسمه فوقها. أحس بأنه يسقط، بشيء منعش على وجهه، شيء رطب. فتح فمه ليلتقط أنفاسه فتسرب بين شفتيه سائل بارد. أفاق بعد مدة ليجد نفسه راقداً في قاع ترعة صغيرة فيها بقايا مياه. غرس يديه في الأرض وزحف حتى أصبح أعلى الهضبة. تلفت حوله. على بعد قليل أكواخ من الطين وحقول، وأمامه حقل ضيق يمتد من الترعة حتى أول كوخ. بذل جهداً ووقف. سار بخطوات مترنحة إلى أحد الأكواخ. انتصب وحده عند أول العزبة. فقد حرصه أمام منظر الحقول، والبيوت، وأطفال يجلسون أمامها، ويصنعون دوائر من الجلّة. اقترب من الكوخ. رأى امرأة تجلس القرفصاء عند ركن منزو، وتحلب اللبن من معزاة سكنت بين يديها. نظرت إليه بطرف عينيها. لمح ظلاً كالخوف على وجهها. سألته بشيء من الغلظة المتحدية: "ماذا تُريد يا عم؟". "وماذا قلت؟"."ماذا قال...؟"قال..."أنا هارب من السجن". "هكذا؟! مرة واحدة"."نعم". لم يجد ما يقوله غير هذا. بتلك البساطة الغريزية تحدث، فأي شيء آخر سترى فيه كذباً. قالها وسكت. ترددت لحظة ثم وقفت. انسحبت بخطوات هادئة باتجاه الكوخ. رأى قواماً طويلاً، وضفيرتين من الشعر الأسود تتدليان فوق ظهرها. غابت في الداخل. عندما عادت تحمل بندقيتها كان قد سقط على الأرض فاقد الوعي. إنه راقد على الأرض داخل الكوخ يتحسس ما تحته بأصابعه، فيلمس شيئاً كالحصيرة. لمح قدمين وجلباباً أسود يقترب منه، ثم يداً تمتد إليه بإناء من الفخار، وسمع صوت امرأة يقول:"خذ. اشرب اللبن". حاول أن يرفع جسمه، لكنه لم يتمكن. استولى عليه الذعر. اعتصره. لن يستطيع بعد اليوم أن يتحرك. شيء كالملوحة في فمه. أدرك أنه يبكي، بكاء القوي العاجز، فأحس بالخجل. مالت عليه تتفرس في وجهه، ثم جلست إلى جواره. وضعت يدها خلف رأسه ورفعته بذراعها. وضعت الإناء على شفتيه وقالت:"اشرب". السائل يسقط في حلقه بدفعات منعشة. تركت رأسه يهبط، ثم قامت وخرجت من الكوخ. عادت بعد قليل. قالت إنها وجدته يغط في النوم. وقفت تُطل عليه. تُرى من أين جاء؟ بكى طفلها فرفعته من على كومة من الملابس القديمة. جلست القرفصاء بجوار الباب ووضعته بين ذراعيها. أخرجت ثديها وأخذت تُرضعه، وتتطلع إلى الأفق. كم من الأيام والليالي مكث في هذا الكوخ؟ لا يتذكر. يتذكر فقط أنه بعد يوم من خروجه إلى الطريق قبضوا عليه. تحت إلحاح أسئلتهم تذكر أن المرأة كانت طويلة القامة، سمراء البشرة تعمل طوال النهار خارج الدار، ثم تعود لتُشعل الفرن، وتُعدّ طعام العشاء."رجل؟". لا. ليس عندها رجل، لا زوج ولا أخ، ولا أحد يزورها. يلمح عينيها أحياناً في سواد الفحم تنظران إليه. لم تسأله عن شيء، ولم يسألها. بعد قليل كانا يتحدثان بين الحين والآخر."عما؟". "عن الجاموسة، ومحصول السنة". تجلس أمامه وتُرضع طفلها، بينما يتحدثان. عندما تعودت على وجوده كانت تترك الطفل على الحصيرة إلى جواره. يمد إليه يده فيرى الأصابع الرفيعة تلتف حوله والعينين الصغيرتين تتطلعان إليه في دهشة. يسأله"مصطفى"في همس ضاحك:"ألم تُضاجعها؟". "يُضاجعها...؟"كلمة لا يعرف معناها. ربما عرفها عندما كان شاباً في القرية، لكنه نسيها. لم يُمارسها بعدها أبداً. دخل السجن قبل أن يتزوج. كان شعور مبهم يتحرك في أعماقه أحياناً عندما يرى وجهها أمامه... نوع من الأنس، ربما، أو الراحة، أو الشعور بالرعاية التي لم يتلق مثلها. رعاية فيها خشونة وصمت. لا، لم يضاجعها. كان يجلس طوال النهار في الكوخ، ولا يخرج سوى في ظلام الليل. يرقد تحت السماء، ويستنشق نسيم الحقول. "أمال سيبت المكان ليه؟". "سيبت المكان ليه...؟"سؤال ليست له إجابة. كان لا بد من أن يتركه. لم يكن من الممكن أن يبقى. عندما حدّثها عن الرحيل قالت:"ابق إذا شئت، وارحل إذا شئت". لم تُلح عليه بالبقاء، ولا بالرحيل، كأن كل الأشياء لها صيرورة لا تستطيع أن تُغير منها شيئاً. "على أي حال، ألم تسعد خلال تلك الأيام؟ لبن، حليب، وإمرأة، وإجازة من السجن. رأيت ما لم نره منذ سنين، إنك لن ترى أنثى بعد ذلك، ربما في حياتك كلها. لكنّ سؤالاً ما زال يُلح عليّ لن أسأله بعد ذلك: بذمتك يا شيخ ألم تُضاجعها ولو مرة واحدة؟". "لم أفكر في هذا". "وبمَ فكرت إذاً؟". "لا شيء. لا شيء، أو ربما...". "ربما.. ربما ماذا؟". "عندما كنت أرقد في الحوش، كنت أسمع صوت النخيل". "صوت النخيل؟!". سمعاه وهو يتنهد ثم قال:"نعم، صوت النخيل. تذكرت أنني لم أسمعه منذ أن أخذوني من"كفر سالم".