مع إبرام اتفاق بين كوسوفو وصربيا يرمي إلى إنهاء النزاع بينهما، يفترض أن يكون الحدث مدعاةَ تفاؤل، ولكن الشيطان يكمن في التفاصيل، فالاتفاق ينص على تمتّع مناطق الغالبية الصربية في شمال كوسوفو بنوع من الحكم الذاتي، وحقّ الصرب في انتخاب ممثليهم المحليين المحدودي الصلاحيات، كما أن جهاز الشرطة في هذه المناطق سيتألف من غالبية صربية تخضع للوصاية المباشرة لبريشتينا، عاصمة كوسوفو، أمّا القطاعات الأخرى، مثل التجارة والاقتصاد والشؤون الثقافية والسياسيّة، فستنتقل إلى سيادة بريشتينا. واجه الاتفاق معارضة داخلية في صربيا، وعارضه الحزب الديموقراطي والكنيسة الأرثوذكسية وأول رئيس ديموقراطي للبلاد، فويسلاف كوشتونيتسا، الذي رأى أن الحكومة تخلت عن الصرب، وباعت أراضي كوسوفو ومتوخيا مقابل وعود غير محددة للبدء بالمفاوضات مع الاتحاد الأوروبي. وسبق التوقيع على هذا الاتفاق المثير للريبة مرحلة مناورات سياسية، وصرح رئيس الحكومة الصربي قبل التوقيع بأسبوع بأنه لن يقبل أبداً اتفاقاً ينتقص من حقوق الصرب في كوسوفو. ولا تقتصر مخاطر تقسيم صربيا اليوم على كوسوفو، فالمشاعر الانفصالية للسكان الألبان تتعاظم في مقاطعة ساندجاكيه الواقعة قرب الجبل الأسود، وازداد الكلام عن استقلال مقاطعة فويفودينا، التي تتمتع بحكم ذاتي وتعيش فيها أقلية مجريّة مشاكسة. والمخاطر السالفة الذكر مصدرها الداخل الإتني، أما في الخارج، فالاتحاد الأوروبي يسعى إلى استكمال تقسيم ما تبقى من يوغوسلافيا ليُهيمن عليها، فموقعها في وسط البلقان استراتيجي، وهو عامل استقطاب للقوى الكبرى، لذا يرمي الاتحاد الأوروبي والناتو إلى تحصين مواقعهما في هذه المنطقة، التي تقيم فيها أميركا ولا يخفى قاعدة عسكرية قرب بريشتينا، وهي على مسافة واحدة من إيران، الشرق الأوسط، أفريقيا، والقسم الأوروبي من روسيا، فموقعها مثاليّ لشن عمليّات الناتو الطارئة. إثر انتهاء الحرب الأهلية في البوسنة، ارتكب السياسيون الغربيون بتوقيعهم اتفاق دايتون خطأً استراتيجياً: السماح بإنشاء جمهورية صربية تتمتع بحكم ذاتي ضمن دولة البوسنة والهرسك. واليوم، يرفض الغرب سعي منطقة صرب البوسنة إلى الالتحاق بالبلد الأم صربيا، وهم يخشون تحوّل الأمر سابقةً يتذرع بها الصرب للمطالبة بانفصال صرب كوسوفو. ويستسيغ الاتحاد الأوروبي تشرذم الصرب، الذين يعيش أكثر من نصفهم خارج حدود صربيا، وهذا ما حصل في الجبل الأسود، حيث أُقنع قادته أنهم مختلفون عن الصرب شعباً ولغة. وفي الهرسك تكرر السيناريو عينه، وساهمت الأفلام والبرامج الإذاعية على الراديو والدعاية الغربيّة، في رسم صورة الصربي الدموي والقاسي. والحقّ أنّ الهدف من هذه الاستراتيجية واضح، وهو إحكام السيطرة على البلقان وتحقيق حلم ألبانيا الكبرى الألباني، وهي أهداف تتحقق رويداً، فالمنتصر يشعر بأنه الغالب، وبأنه فوق القانون. ومن السمات الشائعة عند النخب الحاكمة في الزمان الحالي المتاجرة بالمصالح الوطنية، خصوصاً حين يضع هؤلاء، مصالحَهم الخاصة فوق مصالح الشعب والوطن. ويكمن وراء المصادقة الصربية على الاتفاق تعويلٌ على مساعدة من الخارج، لكن الخبراء يؤكدون أن صربيا لن يتسنى لها الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي قبل 15 عاماً على الأقل، هذا إذا بقي الاتحاد الأوروبي نفسه"حياً يرزق"الى ذاك الحين. * خبير في شؤون البلقان، عن"نيفسكوي فريميا"الروسيّة، 24/4/2013، إعداد علي شرف الدين