بعد خمس سنوات على اعلان كوسوفو استقلالها عن صربيا تمّ في بروكسيل التوقيع بالأحرف الاولى على «اتفاق تاريخي» بين صربيا وكوسوفو ينظم بعض الامور ويترك بعض الامور الاخرى للمستقبل والى حسن النيات، بدعم من الاتحاد الاوروبي الذي سيكافئ الطرفين على ذلك بتسريع وتيرة اندماجهما في الاتحاد (تحديد موعد لبدء المفاوضات لصربيا وتوقيع معاهدة الشراكة والاستقرار مع كوسوفو التي تعتبر الخطوة الاولى نحو تحرير التنقل والترشيح للعضوية). وكانت المحادثات قد بدأت على مستوى أدنى في2011 ثم ارتفع مستواها في 2012 بعد ان تولت مفوضة الشؤون الخارجية البارونة كاثرين آشتون مهمة التوسط بين الطرفين والدفع نحو التوصل الى اتفاق مكتوب. ووصلت المفاوضات الى لحظة صعبة في مطلع نيسان (أبريل) حين عرضت آشتون مسودة اتفاق على رئيسي الحكومتين الصربية والكوسوفية، ايفيتسا داشيتش وهاشم ثاتشي، فقبلها الثاني ورفضها الاول عائداً الى بلغراد مطالباً بتحسينها لمصلحة الصرب. وبعد التئام الجولة العاشرة، التي حملت مكافأة للصرب، رفض هاشم ثاتشي النسخة المعدلة للاتفاق وعاد الى بلاده ولكن تم استدعاؤه من منتصف الطريق (من مطار لوبليانا في سلوفينيا) لمعاودة الجولة التي انتهت يوم الجمعة 19 نيسان بالتوقيع بالاحرف الاولى. وترك لرئيسي الحكومتين مهلة تنتهي الاثنين 22 نيسان لكي يكتبا لأشتون رسمياً بقبول الاتفاق بعد ضمان توافق سياسي واسع في بلادهما، وهو ما يسمح لبروكسيل باتخاذ الاجراءات المناسبة لمكافأة صربيا وكوسوفو. النقطة 14 محور الخلاف من حيث الشكل يمثل الاتفاق لحظة تاريخية في ما لو تحول نحو اتفاق صربي ألباني ينهي قرناً على الاقل من النزاع المرير حول كوسوفو التي تحتل مكانة خاصة عند الصرب والالبان. فهو اتفاق بين دولتين بوسّاطة الاتحاد الاوروبي وضمانات دولية حول شأن يتعلق بالاقلية الصربية التي تتمركز في شمال كوسوفو (حوالى مئة ألف صربي في 12 في المئة من مساحة كوسوفو) والتي تعتبر نفسها جزءاً من صربيا، وهو يندرج أيضاً ضمن ما يسمى «تطبيع العلاقات بين صربيا وكوسوفو» بإلحاح من بروكسيل كشرط مسبق لاندماج الدولتين في الاتحاد الاوروبي. وكانت قوات حلف «ناتو» قد تدخلت عسكرياً خلال ربيع 1999 لترغم صربيا على سحب قواتها العسكرية من كوسوفو ولتقيم ادارة دولية انتقالية توجت في 17 شباط (فبراير) 2008 بإعلان الغالبية الالبانية الاستقلال عن صربيا. وفي غضون ذلك كانت القوات الفرنسية قد أقامت حاجزاً على نهر ايبار الذي يقسم مدينة متروفيتسا لتمنع الالبان من دخول القسم الشمالي من كوسوفو ذي الغالبية الصربية منعاً لاعمال الانتقام، وهو ما أدى في الواقع الى نوع من التقسيم ظل بموجبه شمال كوسوفو (حوالى 15 في المئة من مساحة الدولة مع وفرة الغابات والثروة المعدنية) خارج السلطة المركزية لبريشتينا وحافظ سكانه الصرب على ارتباطهم بصربيا المجاورة حيث بقيت بلغراد تنفق عليه كما على المحافظات الاخرى وتدفع رواتب العاملين في الشرطة والقضاء والتعليم والصحة الخ. ومع تقدم صربيا باتجاه بروكسيل بعد ضمّها الى منطقة الشنغن في 2010 وحصولها في 2011 على صفة «دولة مرشحة» للانضمام الى الاتحاد الاوروبي رهنت بروكسيل تحديد موعد التفاوض مع بلغراد للانضمام الى الاتحاد ب «تطبيع العلاقات مع كوسوفو» الذي لم يعد يعني اعتراف صربيا باستقلال كوسوفو بقدر ما هو حل المشاكل الباقية بينهما نتيجة لحرب 1999 ومن ذلك وضع شمال كوسوفو ذي الغالبية الكوسوفية. ونظراً الى ما تعنيه كوسوفو بالنسبة الى الشارع الصربي، الذي تحركه القوى القومية المتشددة التي تعتبر ان أي تنازل ازاء كوسوفو هو «خيانة»، فقد حرص التحالف الحكومي في بلغراد (الذي يتألف من «الحزب الاشتراكي الصربي» الذي أسّسه ميلوشيفيتش ومن «حزب التقدم الصربي» برئاسة توميسلاف نيكوليتش حليف ميلوشيفيتش في السابق) على انتزاع أفضل حل ممكن لصرب كوسوفو. وحتى اللحظة الاخيرة كان الحل الافضل لبلغراد هو تقسيم كوسوفو بضم شمالها الى صربيا، لكن الاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة كانا يرفضان هذا الحل خشية من تداعياته على المنطقة (البوسنة ومكدونيا بالتحديد). ونظراً الى تجربة البوسنة المريرة فقد فشلت بلغراد في انتزاع «جمهورية صربية» في كوسوفو على نمط البوسنة ولكنها نجحت في الحصول على حكم ذاتي اقليمي للصرب في كوسوفو بضمانات دولية. وهكذا نصّ الاتفاق على انشاء اقليم ذي حكم ذاتي يضم المحافظات الاربع في شمال كوسوفو (متروفيتسا الشمالية وزفتشان وزوبين بوتوك ولبوسافيتش) ويحمل اسم «اتحاد المحافظات الصربية» مع اجراء انتخابات محلية له خلال 2013 ينبثق عنها انتخاب رئيس ونائب رئيس وبرلمان محلي ومجلس تنفيذي. وقد منح الاتفاق لهذا الاقليم قوة شرطة خاصة به تتكون بغالبية صربية وسلطة قضائية وسيطرة على التطور الاقتصادي والتخطيط الحضري، ومنع الجيش الكوسوفي (الذي لم يتشكل بعد) من دخول أراضي الاقليم إلا بإذن خاص من القوات الدولية التي تأسست بقرار الاممالمتحدة في 1999 (الكور) ومن حلف «الناتو». ومع توافق بلغراد وبريشتينا على هذه الامور المتعلقة بالحكم الذاتي للصرب في كوسوفو كانت النقطة ال 14 في مسودة الاتفاقية هي التي أزعجت بلغراد ودفعت داتشيتش الى رفض التوقيع والعودة الى بلاده. وهي تنص على عدم عرقلة كوسوفو في جهودها الى الانضمام الى المؤسسات الدولية ومنها الاممالمتحدة التي كانت بريشتينا تطمح الى نيل عضويتها قبل هذا الاتفاق، حيث أن بلغراد بدعم موسكو استغلت نفوذها في دول عدم الانحياز وعرقلت اعتراف الكثير من الدول باستقلال كوسوفو ولذلك بقي عدد الدول التي اعترفت باستقلال كوسوفو دون حاجز المئة. وخلال «حرد» داشيتش في بلغراد الذي استمر اسبوعين قام بزيارة موسكو وحصل على دعم قوي مع قرض بنصف بليون دولار في رسالة قوية الى بروكسيل. ومع هذا التجاذب عدلت بروكسيل مسودة الاتفاق بحيث ان النقطة ال 14 لبّت مطالب صربيا وأصبحت تنصّ فقط على «عدم عرقلة أي طرف للاخر في السعي الى الاندماج في الاتحاد الاوربي». تنازلات متبادلة وتفسيرات مختلفة حاول كل طرف أن يغطي تنازلاته بتفسيرات أو تصريحات تجعل هذا الاتفاق مقبولاً لدى الغالبية على الأقل لأن المعارضة أو الاقلية كانت ترفض مسبقاً فكرة التفاوض في حد ذاتها. من هنا حاول داشيتش مواجهة اتهامات المعارضة القومية له، التي تجمعت في ساحة الامير ميخائيل لتندد بتخليه عن كوسوفو وتطالب بقتله، أن يركز على «مكسبين» مهمين: حصول صرب كوسوفو على اعتراف قانوني دولي بوضعهم الجديد وعدم اعتراف صربيا باستقلال كوسوفو. وقد وصل به ذلك الى حد القول الى انه «لاول مرة يقف المجتمع الدولي الى جانب الصرب». أما هاشم ثاتشي، الذي بدا أقل حماسة بسبب تعديل المادة 14 لمصلحة الصرب، فقد ركّز في المؤتمر الصحافي الذي عقده بعد وصوله الى بريشتينا على ان ما حصل «لم يكن اتفاقاً مثالياً بل هو اتفاق عقلاني يصب لمصلحة الطرفين والبلقان والاتحاد الاوروبي». وفي حين أن ثاتشي ضمن بسرعة تأييد الاحزاب الرئيسية في كوسوفو بما في ذلك المعارضة المعتدلة («الرابطة الديموقراطية الكوسوفية» و «التحالف لأجل مستقبل كوسوفو») بينما جوبه برفض قاطع من قبل المعارضة القومية («حركة تقرير المصير» و «الحركة لاجل الاتحاد»)، وهو ما سمح له بتمرير الاتفاق على البرلمان الكوسوفي بأغلبية مريحة (89 من أصل 120) مساء الاحد 21 نيسان، واجه داشيتش معارضة حادة من قبل المعارضة القومية الصربية المعتدلة والمتطرفة على حد سواء. فقد اعتبره «الحزب الراديكالي الصربي» (الذي يحاكم رئيسه فويسلاف ششيشل في لاهاي) «خائناً» وهدد بقتله، بينما طالب «الحزب الديموقراطي الصربي» (الذي كان رئيسه فويسلاف كوشتونيتسا في الحكم خلال 2004-2008) باستقالة داشيتش ورئيس الجمهورية توميسلاف نيكوليتش. ومع ذلك فقد أيّدت الاتفاق الاحزاب الرئيسة في صربيا («حزب التقدم الصربي» و «الحزب الاشتراكي الصربي» اللذان يشكلان الموالاة و «الحزب الديموقراطي» الذي حكم صربيا خلال 2008-2012) ولذلك أمكن للحكومة الصربية أن تعلن بعد اجتماعها صباح الاثنين 22 نيسان عن موافقتها الرسمية على الاتفاق، وهو ما يتيح للاتفاق أن يمرّ في البرلمان الصربي أيضاً. ومع هذا تبقى هناك جولة صعبة خلال الاشهر القادمة تتعلق باستكمال الاتفاق على المواضيع المشتركة (الطاقة والاتصالات) وكيفية تطبيق هذا الاتفاق وانعكاس ذلك على العلاقات في ضوء التفسيرات التي يعطيها كل طرف للرأي العام في بلاده. فقد صرّح وزير الخارجية الكوسوفي أنور خوجا عشية تصويت البرلمان على الاتفاق أن كوسوفو تنتظر اعتراف بقية دول الاتحاد الاوروبي والعالم باستقلالها بعد «تطبيع العلاقات مع صربيا»، بينما صرّح مستشار الرئيس الصربي ماركو جوريتش ان صربيا حققت انجازاً بهذا الاتفاق لانها «حرمت كوسوفو من الانضمام الى المنظمات الدولية»!