صاغ محمد عبده بعض المفاهيم حول طبيعة السلطة في الاجتماع السياسي العربي-الإسلامي، تتوافق مع المفهوم الحديث للسياسة الذي ينفي أي قداسة أو تعالٍ للسلطة، وأفضى إلى التعامل مع السياسة والشأن العائد إلى الدولة، انطلاقاً من دنيوية اهتماماتهما ومصلحية أغراضهما، من دون أن يفصلهما عن ضماناتهما الأخلاقية، أو الشرعية، التي مصدرها الإسلام. لم يجرد عبده الحاكم من أي سلطة دينية فقط، بل جرّد كل المؤسسات الأخرى في المجتمع من هذه السلطة، مثل مؤسسات القضاء، والإفتاء، وعلماء الدين، إذ يقول"إن الإسلام لم يجعل لهؤلاء أدنى سلطة على العقائد، وتقرير الأحكام، وكل سلطة تناولها واحد من هؤلاء، فهي سلطة مدنية، قررها الشرع الإسلامي، ولا يسوغ لواحد منهم أن يدعي حق السيطرة على إيمان أحد". إن ما يميز الاجتماع السياسي الإسلامي، هو فقط أن يكون الشرع الإسلامي، المرجعية العليا للتشريع، فالإمام عبده لا يقول: إن الإسلام"دين ودولة"، بل يقول:"إن الإسلام دين وشرع"، وهو لا ينيط بالحاكم الوصاية على التشريع ولا يجعله مصدر تفسيره الوحيد، لأن"الخليفة عند المسلمين غير معصوم"، وبالتالي تصبح الأمة، أو نوابها، أهل الشورى والعقد المجلس النيابي، هي صاحب التشريع، والتفسير. لذا يصبح لا معنى له مطلب فصل السياسي عن الديني، إلاّ إذا كان يعني فصل التشريع نهائياً عن المرجعية القانونية الإسلامية، وهذا أمر لا يمكن تقريره، من الزاوية الديموقراطية، إلا بالرجوع إلى الأمة أو نوابها. أما إذا كان المقصود هو فصل السلطة الدينية عن الدولة، فليس هناك سلطة دينية في الإسلام. وإذا كان رأس السلطة حاكماً مدنياً، ويستمد شرعية حكمه من الأمة، التي يعود إليها وحدها انتخابه وإزاحته، يصبح من المنطقي أن يتخذ عبده الشورى مبدأً ينظم تلك الشرعية برمتها. لذا أشار منذ العام 1881 الى أن الشريعة توجب تقيُّد الحاكم بالنسبة الى القانون، ولا يكفي لتقييد الحاكم بالنصوص مجرد علمه بأصولها، بل لا بد من وجود أناس يتحققون بمعانيها فيقوّمونه عند انحرافه عنها". وتوصل إلى القول:"إن الشورى واجبه، وطريقها مناط بما يكون أقرب إلى غايات الصواب، وأدنى مظان المنافع ومجاليها... من هنا نعلم أن نزوع بعض الناس إلى طلب الشورى، ونفورهم من الاستبداد ليس وارداً عليهم من طريق التقليد للأجانب". وأكد بوضوح:"أن أفضل القوانين وأعظمها فائدة هو القانون الصادر عن رأي الأمة العام، أعني المؤسس على مبادئ الشورى". ثم انتقل الإمام عبده إلى إثبات أن النظام البرلماني ليس سوى بعث لنظام الشورى. ولعل وجود النظام الدواويني في مصر، سهل له ترجمة مفهوم الشورى إلى النظام البرلماني. فمنذ العهد العثماني كان يوجد الديوان الكبير، والديوان الصغير، وألَّف نابليون ديواناً لتدعيم سياسته، وفي عهد محمد علي صار له سلطة استشارية. ثم أتى اسماعيل فأعاد تنظيمه على أساس انتخابي، ما مهد لمحمد عبده التوفيق نظرياً بين فكرة التمثيل البرلمانية، وفكرة الشورى في الإسلام. ولقد شَرعَنَ عبده ترجمة مبدأ الشورى إلى صيغة النظام التمثيلي البرلماني، بحجة"أن الشرع لم يأتِ ببيان كيفية مخصوصة لمناصحة الحكام، ولا طريقة معروفة للشورى، كما لم يمنع كيفية من كيفياتها... فالشورى واجب شرعي، وكيفية إجرائها غير محصورة في طريق معين، فاختيار الطريق المعين باقٍ على الأصل من الإباحة والجواز، كما هي القاعدة لكل ما لا يرد نص بنفيه وإثباته". فالنظام البرلماني هو الأسلوب أو الطريقة التطبيقية للشورى، والغرب اقتبسه من عندنا، فيقول"ندب لنا أن نوافق على كيفية الشورى الأمم التي أخذت هذا الواجب نقلاً عنا، وأنشأت نظاماً مخصوصاً حتى رأينا في الواقعة نفعاً. ووجدنا منها فائدة تعود على الأمة والدين، بل واجب علينا، إذا رأينا شكلاً من الأشكال مجلبة للعدل أن نتخذه ولا نعدل عنه إلى غيره. كيف وقد قال ابن قيم الجوزية ما معناه: إن أمارات العدل إذا ظهرت بأي طريق فإن هناك شرع الله..". بعد أن شرعن عبده الأخذ بصيغة النظام التمثيلي البرلماني كأسلوب، وأداة أو طريقة تطبيق للشورى، أُثبت نفعها للأمة، انتقل إلى تحديد الشروط، والظروف الملائمة لنجاح تطبيقها. فأشار إلى أنه:"إذا بلغت أمة من الناس هذه الدرجة من التنوير، وأصبحوا جميعاً في رأي واحد في وجوب ضبط المصالح، واندفعوا إلى طلب هذه الحقوق الشريفة، ولا يكتفون من دون أن يروا بين أيديهم قانوناً، لا يعيبهم أن يوكِلوا وضعه لواحد منهم.. فلم يبقَ إلاّ أن ينتخبوا منهم نواباً، بقدر الحاجة للقيام بهذا الواجب". فالشورى، وصيغتها التطبيقية النظام البرلماني"لا تنجح إلاّ بين من كان لهم رأي عام يجمعهم". بعد معارضته في البداية لثورة عرابي ولتدخل العسكر في الحكم، انحاز لمطلب الشورى وانتخاب مجلس نيابي، في المرحلة الأخيرة لهذه الثورة، فبعد أن تولى شريف باشا، الوجه الأبرز للحركة الدستورية، رئاسة الحكومة، انتقلت قضية النظام البرلماني من مسألة شرعية إلى مسألة ممكنة راهنة. فبادر عبده إلى إثبات نضج الظروف للديموقراطية، معلناً"ثَبُتَ أن وجودها الشورى، النظام التمثيلي في بلادنا المصرية ممكناً، بل واجب محتوم، حيث ثبت أن لا مانع من إحدى الجهتين الخديوي، ورئيس الحكومة. وأما في ما يتعلق بمنافعها.. فإن بلادنا المصرية لا فرق بينها وبين بلاد أخرى تحققت فيها الشورى، ونالت منافعها"ثم يقول"وقد أثبتنا أن لا عائق من جهة الأهالي بعد أن تغيرت حالهم وعرفوا الضار والنافع.. ثم إن انتخاب النواب تمّ على وجه يكفل تحققها.. ولا يخلو المنتخَبون من أهل الدراية..". ثم يؤكد جدارة المصريين لهذا النظام بعد أن"دبت فيهم روح الاتحاد، وأشرفت نفوسهم على مدارك الرأي العام. فهم بهذا الاستعداد العظيم، أهل لأن يسلكوا الطريق الأقوم، طريق الشورى، والتعاضد في الرأي.. وأجمع رأيهم على تأليف مجلس شورى.."، ووضع عبده في تلك الفترة، بالاتفاق مع عرابي، وموافقة وزير الحربية محمود سامي البارودي برنامج الحزب الوطني، الذي جاء فيه:".. الإلحاح على الحضرة الخديوية بتنفيذ ما وعد به من الحكم الشورى. وإطلاق الحرية للمصريين. وأن رجال الحزب الوطني عقدوا الخناصر على توسيع نطاق الحرية، بواسطة مجلس شورى النواب، وبواسطة حرية المطبوعات، وتعميم التعليم، ونمو المعارف.."وجاء في المادة الخامسة"أن الحزب الوطني حزب سياسي لا ديني، مؤلف من رجال مختلفي العقيدة والمذهب، وجمع النصارى واليهود، وكل من يحرث أرض مصر ويتكلم لغتها، وإن الجميع إخوان، وحقوقهم السياسية متساوية". فلم يجد عبده أي تعارض يُذكر بين مفهوم الشورى الإسلامي ومفهوم الديموقراطية الحديث، اذ اعتبر الديموقراطية الأداة والآلية الملائمتين لتطبيق الشورى على المجال السياسي وعلاقة السلطة بالمجتمع.