كان نهضويونا الأوائل بمن فيهم الاصلاحيون المسلمون، منفتحين على المدنية الحديثة، وعلى فكرة الاقتباس من انجازاتها، لتوطينها في التربة الوطنية، حيث ارتكز جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده على اعتقاد مفاده ان الإسلام الحقيقي هو على توافق مع العقل، ومع حقائق المدنية الحديثة، لذا حاولا ترجمة مفاهيم الحداثة الأوروبية الى لغة الإسلام، في سياق تجديدهم لباب الاجتهاد. فلا غرو، والحال هذه، ان وجد الاصلاحيون الدينيون الأوائل نوعاً من التوافق، في مجال المفاهيم السياسية الحديثة، ما بين الشورى والديموقراطية، بأن رأوا في الثانية الترجمة الحديثة عن الأولى، أو الأداة والآليات المناسبة لتطبيق مبدأ الشورى، ووسيلة فاعلة للتعبير الواقعي عنه، وهو ما نراه بشكل خاص عند محمد عبده والكواكبي اللذين شدّدا على حقيقة ان الإسلام لا يعترف بوجود "سلطة دينية" تتوسط علاقة الفرد بالخالق، وتفرض وصايتها على الجماعة في حكمها لنفسها، وبالتالي فقد استنتجوا ان السلطة السياسية، هي سلطة مدنية أساساً، تستمد شرعيتها من الأمة "الجماعة" وأن رأس هذه السلطة: إماماً أو حاكماً يعود الى الأمة أمر انتخابه وعزله. لذا يصبح من المنطقي، أن يصل محمد عبده الى تقرير "ان الشورى واجبة، وان طريقها مناط بما يكون أقرب الى غايات الصواب، وأدنى مظان المنافع ومجاليها"، وهي أيضاً "واجبة وجوباً شرعياً، من هنا نعلم أن نزوع بعض الناس الى طلب الشورى، ونفورهم من الاستبداد ليس وارداً عليهم من طريق التقليد للأجانب"، لأنها من صلب شرعهم. وعلى هذا الأساس انتقل عبده الى اثبات ان النظام البرلماني، التنافسي التمثيلي، ليس سوى بعث لمبدأ الشورى الإسلامي، وذلك لأنه وجد في آليات النظام البرلماني ومؤسساته الترجمة المعاصرة الملائمة له، فيشرح حجته: "ان الشرع لم يجئ ببيان كيفية مخصوصة لمناصحة الحكام، ولا طريقة معروفة للشورى، كما لم يمنع عن كيفية من كيفياتها، فالشورى واجب شرعي وكيفية اجرائها غير محصورة في طريق معين"، ويشير الى ان أوروبا اقتبست من المسلمين مبدأ الشورى، وترجمته في مؤسسات ديموقراطية، ليصل الى القول: بوجوب "ان نوافق، على كيفية الشورى، الأمم التي أخذت هذا الواجب نقلاً عنّا، وأنشأت نظاماً مخصوصاً حتى رأينا في الواقعة نفعاً، ووجدنا منها فائدة تعود على الأمة والدين". وهكذا اتفق الرعيل الأول من "الاصلاحيين المسلمين" على أن هناك تماثلاً بين الشورى والديموقراطية، باعتبار الثانية تشكل الآلية المناسبة لتطبيق حكم الشورى، والمعبر عنها، إلاّ ان الاشتراطات والتضييقات على ذلك التماثل، ستزداد تصلباً مع بداية القرن العشرين، بالتوافق مع انهيار الخلافة العثمانية وخيبة رجال "الثورة العربية" من وعود الانكليز، وتفكيك الشرق العربي لحساب فرنسا وانكلترا التي رعت المشروع الصهيوني، حيث عزّزت تلك التطورات بدورها من نزعة التصلّب تجاه الثقافة الأوروبية، وتجاه عملية الاقتباس منها لحساب فكرة "الهوية" والانغلاق الثقافي. لكن على رغم كل هذا، تعايشت الحركات الإسلامية بما فيها "جماعة الاخوان"، ومفكرو الجيل الثاني من الاصلاحيين مع النظام التمثيلي البرلماني، وباركوه باعتباره أقرب الأنظمة الى مبدأ الشورى الإسلامية، على رغم تصاعد اشتراطاتهم، وتزايدها كي يعطوا لهذا النظام الطابع الإسلامي، كأن يجعلوا السيادة الدستورية "للشريعة"، أي مانحين بذلك الشرعية للانتخاب والاختلاف، وتداول السلطة، في اطار ما تستلزمه "الشريعة". ولعل أبرز الحركات الإسلامية التي تعايشت مع "النظام التمثيلي البرلماني" والخيار السلمي الديموقراطي لتطور الحياة السياسية هي "جماعة الاخوان" في الأردن، وقد أظهر حسن البنا من قبل موقفاً ايجابياً تجاه الدستور المصري "الحديث"، وحذا حذوه مصطفى السباعي في قيادة الجماعة في سورية في الخمسينات. ما يلبث أن يتفكك هذا التعايش، لاحقاً في "المرحلة التقدمية" من عمر النظام العربي، عندما تراجعت الليبرالية والتحررية الديموقراطية لحساب "حتمية الحل الاشتراكي القومي" وسيطرة فكرة قيادة الطليعة التقدمية وحزبها على الدولة والمجتمع، التي أقامت صرحاً لأنظمة أوامرية عاتية فتكت بالدولة والمجتمع، ولم يتبق في ظل هذا المناخ الاستبدادي الشامل، أي فسحة للحوار، ولحق الاختلاف، ناهيك عن حق التعبير والتمثيل. في مناخ التصلّب الايديولوجي والسياسي هذا، خرجت علينا فكرة "الحاكمية لله" والتنظير للدولة الثيوقراطية الدينية، ومعها فكرة التكفير، التي لم تعد تقتصر على الدولة "الفرعون" فقط بل استهدفت المجتمع "الجاهلي" أيضاً!! فانفتح باب شرعنة العنف على مصراعيه، وغدت فكرة "حتمية الحل الإسلامي" تقابل تماماً باستبداديتها واستئصاليتها الفكرة السائدة "حتمية الحل الاشتراكي" والديموقراطية الشعبية المدعومة بالأجهزة السرية والعلنية، فلقد أطلق سيد قطب وتلاميذه التكفيريين رصاصة الرحمة على انفتاح "الإصلاحية الإسلامية" على العالم، وعلى "الآخر" في الاجتماع العربي الإسلامي، برفعهم تهمة "الكفر" في وجه الجميع. كان علينا أن ننتظر الثمانينات لنرى ملامح مراجعة للأفكار والبرامج باتجه العودة الى فكرة المشاركة والديموقراطية، وجدناها عند القوميين في قراءتهم لدلالة سقوط النظام الناصري في مصر، ووجدناها عند بعض الماركسيين بدلالة فشل تجربة "النظام التقدمي" في التنمية والتحرر، وعلائم بداية الانهيار في المعسكر السوفياتي مع انكشاف عثرات التجربة "البولونية" وصعود منظمة "التضامن"، ولم يسلم من هذه المراجعة التيار الإسلامي، فأعيد الاعتبار مجدداً لفكرة الشورى، ومعادلتها بالديموقراطية ومؤسساتها وآلياتها، ووصل ما انقطع مع التربة الفكرية للإصلاحية الإسلامية، بنفي فكرة الدولة الثيوقراطية، و"المؤسسة الدينية"، وبإحياء فكرة الطابع المدني للسلطة في الإسلام، ومرجعية الأمة في الشأن العام، واحترام التنوع في الاجتماع السياسي الإسلامي، والتمسك بالديموقراطية كصيغة عصرية لتجربة مبدأ الشورى، ولأنها كما يقول الغنوشي: "تقدم أفضل آلية أو جهاز للحكم يمكّن المواطنين باستعماله، من ممارسة الحريات الأساسية، ومنها الحريات السياسية"، ولم تقتصر مساحة هذه المراجعة الإسلامية على الغنوشي وجمعية النهضة التونسية، أو محمد سليم العوا، بل فرضت نفسها على الإخوان في مصر وسورية، وتعزّزت أكثر عند الجماعة في الأردن، وأيضاً في الجزائر بعد التجربة المرة، إن ما يحتاجه العرب لترسيخ هذا التحول في الأفكار، والمناهج، ليس فقط توسع دائرة تأثير تلك الأفكار المغذية لاحترام دور الناس والمجتمع والأمة في السياسة، بل يحتاج أيضاً لتغيير المناخ السياسي العام. * كاتب سوري.