عند بداية فيلم"السيد اركادان - تقرير سري"الذي حققه أورسون ويلز بين العامين 1953 - 1954، تظهر على الشاشة كتابة تقول:"في ماضي الأيام كان هناك ملك قال لشاعر: من بين كل ما أملك، ما الذي يمكنني أن أعطيك؟ فأجابه الشاعر: كل شيء إلا سرّك". الملك، رمز القوة والسلطة. الشاعر رمز الفن والصدق. والسرّ، رمز غموض الحياة وسحرها. هذه الأمور الثلاثة يضعها اورسون ويلز في أول فيلمه، كنوع من التذكير بالسينما التي أحب دائماً أن يصنعها. هي، لمن يريد ان يتذكر، الأمور الثلاثة التي تسيطر على فيلمه الأول"المواطن كين"... من هنا كان من الواضح ان المخرج الأميركي - الشاب في ذلك الحين - انما كان يريد ان يعيد الى أذهان متفرجيه أقانيم فيلمه الأول. والحال أن ثمة الكثير من القواسم المشتركة يجمع بين الفيلمين، الى درجة ان كثراً اعتبروا"السيد اركادان"مجرد تكملة ل"المواطن كين". ومع هذا، فإن ثمة ما هو أكثر من القاسم المشترك بين الفيلمين: هناك الخلفية الفكرية التي دفعت أورسون ويلز الى تحقيقهما، مع فارق يزيد على عشر سنوات بينهما، فنحن نعرف، طبعاً، أن"المواطن كين"انما هو في حقيقته"تنويع"على حياة سيد الصحافة اليمينية في أميركا الأربعينات ويليام راندولف هيرست، وعبره تنويع على مسألة السلطة والبراءة وأسرار الحياة والغوص في الماضي. وقد كان هيرست نفسه أول من أدرك ان أورسون ويلز يقدّم في فيلمه أسئلة مقلقة حول ثروته وماضيه وعلاقته بطفولته. ومن هنا، ما إن عرض الفيلم حتى أقام ملك الصحافة على الفنان دعوى قضائية، واعتبر الأمر فضيحة في الحياة الاجتماعية الأميركية ما بعدها من فضيحة. والآن إذا تركنا هيرست و"المواطن كين"جانباً لنقفز أكثر من عشر سنوات في الزمن، سنجد ان ل"السيد اركادان"علاقة أكثر من وثيقة بسيد آخر من سادة المال هو هذه المرة بازيل زاهاروف، تاجر الأسلحة الغامض الذي كان ملء الأسماع والأبصار في النصف الأول من القرن العشرين. وحكاية فيلم"السيد اركادان"لها علاقة أساساً، بزاهاروف هذا. ففي أوائل الخمسينات وخلال تجوال له في أوروبا بعدما أنجز فيلم"عطيل"في المغرب ونال عنه سعفة مهرجان"كان"الذهبية، التقى اورسون ويلز بالكونت زاهاروف، فوعده هذا بأن ينتج له فيلمه المقبل، ثم دعاه كي يقوم بكتابة سيناريو الفيلم في قصره الفسيح في روما. وبالفعل لبّى ويلز الدعوة الكريمة وأقام في قصر الكونت وأنجز الكتابة خلال أسابيع ضخّه فيها مضيفه بالمال والأطايب... وفي النهاية سلّم اورسون ويلز المخطوطة الى الكونت ذات مساء، ثم ذهب ليسهر مع بعض أصدقائه فيما انفرد زاهاروف في جناحه كي يقرأ المخطوطة على مهل ولذة. آخر الليل حين عاد ويلز من سهرته، وجد حقائبه مرمية عند باب القصر وفهم انه مطرود... وكان رد فعله الوحيد انه استغرق في ضحكة صاخبة وسط الليل البهيم... فهو، بعد كل شيء، كان يتوقع ما حدث، تحديداً لأن السيناريو الذي كتبه كان عبارة عن أسئلة قلقة وبحث غامض في ماضي... مضيفه نفسه، تماماًَ كما كان فعل في"المواطن كين"بالنسبة الى ماضي هيرست. طبعاً هذا الحادث لم يردع ويلز عن تحقيق فيلمه... بل سرعان ما نراه وقد صوّره بسرعة لاعباً بنفسه دور العملاق الغامض، السيد اركادان... نافياً، على أي حال، أن يكون قد توخى من فيلمه الاساءة الى الكونت زاهاروف أو الى ماضيه. كل ما في الأمر أنه أراد، مرة أخرى، أن يقدّم امثولة عن السلطة والطبيعة البشرية، من دون اي اعتبار لموقع الخير والشر في الأمر. بل المدهش في هذا الفيلم هو ان المتفرج يفتتن بشخصية اركادان على رغم انه شرير ويحتقر شخصية التحري فان ستراتن على رغم انه ليس شريراً. ثمة في"السيد اركادان"حكاية، يرويها اركادان بنفسه، ويمكنها ان تفسر لنا هذا الفيلم - بل كل سينما اورسون ويلز - وهي حكاية العقرب والضفدعة. فالعقرب، كما تقول الحكاية، أراد يوماً أن يجتاز نهراً وطلب من الضفدعة أن تحمله على ظهرها عابرة به. لكن الضفدعة تقول له:"لا... لأنني إن حملتك على ظهري، ستعضني وأموت". فيجيبها العقرب:"لو عضضتك، ستموتين حقاً، لكنني سأغرق أنا معك بالتالي". هنا تقتنع الضفدعة وتبدأ بنقل العقرب محمولاً على ظهرها... ولكن عند منتصف المسافة تشعر بألم حاد في ظهرها وتبدأ بالغرق قائلة للعقرب:"لقد عضضتني، لكنك ستغرق معي... فأين هو المنطق في ما فعلت؟"، ويجيبها العقرب:"أعرف هذا... لكنني ما كنت قادراً على منع نفسي من عضّك... انها طبيعتي". هذه الحكاية التي يرويها اركادان في الفيلم تكشف ان ويلز كان لا يتورع عن الاعجاب بالأشرار والمحتالين والطفيليين شرط ان يكونوا من العظمة حيث يقول الواحد منهم:"أنا هكذا... كما أنا". كان مفتوناً بالشرير الذي يقرّ بأنه شرير. صحيح ان الشر كان يغيظه... لكن الشرير الذي لديه من القوة ما يجعله يقر بأنه شرير كان يسحره. مثلما هي الحال في"المواطن كين"... تُروى الأحداث التي تشكل موضوع"السيد اركادان"من جانب شخصية في الفيلم في عملية عودة الى الوراء... يرويها التحري فان ستراتن الذي يسأل رجلاً عجوزاً خائفاً منذ أول الفيلم هو جاكوب زوك أن يفضي اليه بسر اركادان... وابتداء من هنا يبدأ ستراتن برواية الأحداث. والأحداث المروية تتعلق طبعاً بالتحري الغامض الذي نعرف ان ثمة رجل عصابات جريحاً في ميناء نابولي في إيطاليا يريد ان يثأر منه... وستراتن يلاحق قضية اركادان هنا راغباً في معرفة أسرار ماضيه، لأن في الأمر ملايين الدولارات يمكن كسبها. ولكن من يعرف شيئاً عن ماضي اركادان؟ المهم ان ستراتن يطارد اركادان من مدينة الى أخرى ومن حفلة الى أخرى، حتى يكتشف ان نقطة ضعفه هي ابنته رينا تماماً كما ان طفولة هيرست في"المواطن كين"كانت هي نقطة ضعفه. وذات لحظة في الفيلم وإذ يدرك اركادان حذق اللعبة من حوله، يدعو رجل العصابات الجريح ويطلب منه ان يبحث عن سرّه مقابل 10 آلاف دولار، مفضياً اليه بأنه في العام 1927، كان بدأ يحقق ثروته انطلاقاً من مبلغ 200 ألف فرنك سويسري. فماذا عمّا كان قبل ذلك؟... وتبدأ التحقيقات حتى الوصول الى العجوز صوفي في المكسيك التي يتبين انها كانت حبيبة اركادان، ومنها سرق هذا الأخير المبلغ الأساسي. عند هذا الحد يكون جزء من سر اركادان قد كشف... لكن اركادان ليس من الذين يستسلمون بسهولة... وهكذا يختفي عارفو سره ورفاقه القدامى واحداً بعد الآخر، وصولاً الى زوك... أما اركادان فإنه في خضم ذلك كله يهرع الى اسبانيا كي يلتقي ابنته قبل ان يكشف الآخرون فان ستراتن تحديداً سرّه أمامها. وحين يلتقي اركادان بابنته في الطائرة يطلب منها ألا تصغي لأي شخص يروي لها أي شيء عنه، فتصرخ به قائلة: لقد فات الأوان... فلا يكون منه إلا أن ينتحر قافزاً من الطائرة الى البحر، أما رينا فإنها لن تغفر لفان ستراتن تسبّبه في انتحار أبيها... قد لا تبدو هذه الأحداث التي تشكل متن هذا الفيلم الغريب، كبيرة الأهمية بالمقارنة مع دلالاتها، ومع ما أراد اورسون ويلز قوله. ولا سيما تأمله حول السلطة وسر الحياة. ومن هنا اعتبر"السيد اركادان"واحداً من الأفلام الأساسية في سينما ويلز ومفتاحاً لفهم سينما هذا المبدع وفلسفته. وأورسون ويلز 1915 - 1985 هو طبعاً، ذلك السينمائي الأميركي العالمي الكبير، الذي لا يزال الكثير من أفلامه مثل"المواطن كين"و"الظمأ الى الشر"و"عطيل"و"ماكبث"و"السيد اركادان"و"سيدة من شانغهاي" ومعظمها مثّل فيه وأخرجه وكتب له السيناريو، بل أنتجه حقاً لا يزال يعتبر من أمهات الأفلام العالمية. [email protected]