على أهمية"الحوار"المستجد، بعد توقف لفترة طويلة، بين ايران والدول الخمس ذات العضوية الدائمة في مجلس الأمن + ألمانيا حول ملف طهران النووي، فالأمران الجديدان في سياقه واللذان من شأنهما أن يلقيا بعض الضوء عليه وعلى امكانات نجاحه أو فشله هما: أولاً، اسقاط طهران أحد البنود الذي دأبت على طرحه في جولات الحوار السابقة، أي دورها الاقليمي ومساومة الطرف الآخر على الاعتراف به، وثانياً، اصرارها على إبقاء المحادثات سرية وبعيدة عن التداول الاعلامي من جهة، وأن تتم ضمن جدول زمني محدد وقصير الأمد من جهة ثانية. في الأمر الأول، يبدو أن ايران تريد ابلاغ الدول الست التي تتفاوض معها، ومن خلالها العالم كله، أنها لم تعد في حاجة للبحث مع أحد في دورها في المنطقة، وتالياً في العالم، لأنها أخذته فعلاً. بل أكثر، إبلاغ هذه الدول أن دورها الاقليمي هذا وملفها النووي يشكلان معاً ومنذ الآن رصيدها في المحادثات، بعد أن كان الملف النووي وحده هو الطريق الى الدور واعتراف الخارج به. تحاول ايران، في هذا السياق، أن تقول انها تملك اليد الطولى في ثلاث ساحات اقليمية ساخنة جداً العراق وسورية ولبنان وفي ثلاث أخرى يمكن أن تسخن في أية لحظة البحرين واليمن والسودان، وأنها ستكون قادرة على التدخل ايجاباً أو سلباً فيها كلها اذا نجحت، أو فشلت، مفاوضاتها مع الدول الست حول ملفها النووي. ولأن دول المنطقة ودول العالم الكبرى، فضلاً عن الأممالمتحدة، معنية كلها بالسلم والاستقرار في هذه الساحات التي تهددها حروب أهلية مفتوحة على احتمالات تقسيمها الى دويلات طائفية ومذهبية وإثنية متحاربة بصرف النظر عن الأسباب وعمن يدفع باتجاهها، فإن يد ايران الطولى يمكن أن تساعد في الاتجاهين معاً: الحروب والتقسيم، أو الأمن والسلام والاستقرار. لا يهم هنا، من وجهة نظر ايران الامبراطورية، كل ما يقال عن دور نظامها المذهبي على مدى الأعوام ال34 الماضية في التدخل في شؤون كل بلد من بلدان المنطقة تعيش فيه أقلية شيعية، ولا حتى في اشعال الحروب الطائفية والمذهبية في المنطقة كلها، ما دام هذا العمل أكسبها الدور الاقليمي الذي كانت تسعى اليه منذ البدء. كما لا يهم أيضاً أن تكون الدول الست المعنية بملفها النووي تدرك هذه الحقيقة جيداً... ففي السياسة، تقول وجهة النظر هذه، لا مكان للأخلاق ولا حتى للمساءلة في الأساليب التي انتهجتها طهران للوصول الى هذا الدور! في الأمر الثاني، تبدو ايران كمن يسعى إلى"صفقة"مع الدول الست، ومع الولاياتالمتحدة تحديداً، لكنها لا تريد في الوقت ذاته أن تخسر ما تعتبره مدخلها الى أي من بيئتها الشيعية التي حوّلتها الى أحزاب وما يشبه"ميليشيات"في الدول التي تعيش فيها، أو في المجتمعات العربية والاسلامية المعادية بطبعها للولايات المتحدة ولدول الغرب عموماً بسبب موقفها الداعم لاسرائيل على حساب حقوق الشعب الفلسطيني، أو حتى للشعوب وبعض الأنظمة في العالم التي صدقت كلامها حول"الاستكبار العالمي"و"الشيطان الأكبر"ووقفت الى جانبها خلال الفترة الماضية. والأهم في هذا السياق، أن من شأن فقدانها أياً من هذه البيئات، بخاصة في العراق وسورية ولبنان، أن ينعكس سلباً على أي دور تعد به أو تحاول أن تلعبه، من ضمن"الصفقة"المفترضة، لوقف مسار التدهور الذي يضرب تلك الدول وشعوبها منذ سنوات وفي المرحلة الراهنة خصوصاً. هل يعني تفويض المرشد الأعلى الايراني علي خامنئي رئيس جمهوريته حسن روحاني ابداء"نوايا حسنة"تجاه الولاياتالمتحدة وبدء التفاوض معها حول برنامج بلاده النووي، ثم انتقاده علناً بعد الاتصال الهاتفي مع رئيسها باراك أوباما لدى عودته من نيويورك، أو كذلك حديثه عما سمّاه"المرونة البطولية"في عملية التفاوض هذه، غير هذا المعنى... معنى"التقية"بكل أبعادها؟ غني عن القول إن أولويات النظام الايراني تبدأ من الغاء، أو حتى تخفيف، العقوبات الدولية التي أنهكت اقتصاد إيران وجعلتها عاجزة، ليس فقط عن الوفاء بمتطلبات شعبها، انما أيضاً عن استكمال هجمتها العدوانية على شعوب دول المنطقة الأخرى. الا أنها لم تغمض عينها أبداً، ولا حتى في ظروفها الحالية، عن الدور الاقليمي الذي سعت اليه منذ اللحظة الأولى لنشوء النظام في 1979. ويخطئ من يظن أن سياسات رئيسها السابق محمود أحمدي نجاد، التي قامت على التدخلات الوقحة في المنطقة من جهة ومقولتي"ازالة اسرائيل من الوجود"و?"قرب ظهور الإمام المهدي"من جهة ثانية، كانت ظرفية أو استثناء في تاريخ ايران الحديث. فهذه الوقاحة كانت في صلب الاستراتيجية الامبراطورية لهذا النظام، ولن يكون بعيداً اليوم الذي يقول فيه الايرانيون علناً إن دور ايران الاقليمي والدولي الذي يحاول خامنئي وروحاني أن يلعباه الآن قد تجسد واقعاً على الأرض في ظل هذه السياسات ونتيجة لها. ولكن، هل تنجح هذه"التقية"الثنائية في ايصال ايران الى"الصفقة"التي تريدها مع الولاياتالمتحدة والغرب عموماً هذه المرة؟ يجدر القول انه، رغم سهولة كشف"التقية"الثنائية هذه، فمن الصعب تقديم جواب قاطع عن السؤال في المرحلة الراهنة... بخاصة في ظل ادارة أوباما التي يبدو أنها مستعدة لكل شيء يطمئن اسرائيل الى وحدانية امتلاكها السلاح النووي في المنطقة. مع ذلك، ف"التقية"الإيرانية كفيلة بإفشال اللعبة في نهاية المطاف. ذلك أن أربعة وثلاثين عاماً كاملة من محاولة بناء الامبراطورية الفارسية على حساب المنطقة وشعوبها لن يمكن أن يدمرها النظام الشمولي في طهران من دون"ثمن"مجز... لن تستطيع أية ادارة أميركية أن تدفعه في نهاية المطاف.