دعا عدد من المشاركين الروس في النقاش خلال الدورة العشرين لمجلس السياسة الخارجية والدفاعية، إلى تحديد هوية لروسيا الجديدة التي ولدت بعد انهيار الدولة السوفياتية. بدت الفكرة سخيفة لغالبية أعضاء المجلس الذين يضعون أنفسهم في عداد الجزء المتنوّر من النخبة الروسية، بينما مارس البحث عن الهوية حتى الآن المثقّفون الروس المحافظون. ولكن من نحن؟ وبأي تاريخ نعلّق أنفسنا؟ هل نحن جزء مستقل أم جانبي من أوروبا؟ هل نريد أن نكون أوروبا؟ لا تزال هذه القضية مطروحة. وتظل قضية صلتنا بثقافاتنا مطروحة أيضاً. بدأ الأدب العظيم الذي يعود إلى القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ويعد أكبر إسهام لروسيا في الحضارة العالمية، في الخروج من التداول الاجتماعي الروسي. وحتى أغلب الأشخاص المفكرين لا يشعرون بصلة ثقافتنا المعاصرة، بالثقافة القديمة التي تحتوي على الشيفرة الجينية لحضارتنا وثقافتنا. بما في ذلك نماذج السلوكات التي تكررت وتطورت في المسيحية. كيف نستطيع فهم الشاعر الروسي العظيم بوشكين، من دون أن ندرك أنه تربّى على التاريخ والثقافة القديمة؟ ومن القضايا الأكثر حدة: كيف نريد أن نكون وإلى أين نريد أن نذهب نحن أي غالبية النخبة الروسية أو السكان؟. من الإجابات المعروفة والأكثر شعبية: نحن مختلفون بدرجة مفرطة ولن نتّفق. هل يمكن الاتفاق"معهم"؟ أي مع المتظاهرين في ساحة بولوتنايا تظاهرات المعارضة في موسكو؟ أم مع السلطويين الفاسدين؟ إذا هيمنت مثل هذه الإجابات، ولم تجد النخب ما يكفي من الإدراك لبدء التوصل إلى اتفاق على أساس برنامج مشترك ما، فسيصبح مستقبلنا غير القابل للتنبؤ قابلاً للتنبؤ. سنصبح أمة المنتحرين الذين يحسمون مصيرهم وبلادهم لمصلحة الركود والتدهور والانهيار الجديد. بالطبع، المشكلة الرئيسة للهوية الروسية الحديثة، أو لغيابها، تتمثّل في تاريخ روسيا المأسوي في القرن العشرين، عندما تعرض الشعب لتجربة قاسية، ولم تقاومها غالبيته. جرت إبادة الإيمان والضمير والشرف والكرامة الإنسانية والشعور بالانتماء إلى تاريخ عظيم، ومن حمل ذلك من رجال الدين والأرستقراطيين والمثقّفين والفلاحين. في الواقع كل ما كان ومن كان الأفضل. صنع الاتحاد السوفياتي هويته الخاصة التي كانت لها إيجابيات كثيرة أيضاً. ولكنه تفكك. وتبيّن عجز النموذج السوفياتي للاقتصاد الاشتراكي. بعد التفكّك كان لا بد من النجاة. نجونا بأعجوبة. لن أتعب من تكرار أن التفسير السياسي"الصحيح"الوحيد لعدم انزلاقنا إلى حرب أهلية دموية جديدة، وعدم إقدامنا على انتحار وطني نهائي خلال العقدين الماضيين، هما من وجهة نظري أن الله غفر للشعب الروسي خطيئة الشيوعية الكبيرة. لم تدفع النجاة إلى البحث الإبداعي عن أيديولوجيا جديدة للأمّة. تقرّر أن المجتمع والشعب سيولّدان هوية جديدة وأيديولوجيا جديدة بنفسيهما. ولم نصنع بحلول اليوم شيئاً جديداً باستثناء ذكرى الحرب الوطنية العظمى. ولم يجد المجتمع أو السلطة أو النخبة المثقفة أفكاراً من شأنها توحيد البلاد ودفعها إلى الأمام. جرى ترميم الدولة وإكسابها فكرة"النهوض من الركبتين"وحماقة فكرة"القوة العظمى في مجال الطاقة". ثم تكلم الجميع عن التحديث بحماسة من دون الاستثمار في التعليم والبشر، مفضلين تجاهل تقادم البلاد في شكل متسارع. ولكن النمو الاقتصادي يتباطأ، ويزداد الغضب العام، والنخب منقسمة وجزء من ممثليها، ببساطة، يهاجر أو يهرّب الأموال والأبناء. وقد شهد التاريخ الحديث فترة مماثلة جداً في نهاية سبعينات وبداية ثمانينات القرن الماضي. كانت النخبة الحاكمة تزدهر، والمثقّفون يكرهون السلطة في هدوء ويعيشون حياة كريمة وفقاً للمعايير السوفياتية. وكان جزء من غير الراضين اليهود يهاجرون. وكان الشعب صامتاً، ولم يعد أحد يؤمن بشيء. كان الجميع يسخر من كل شيء. كانت الهويّة السوفياتية في طريقها إلى الزوال. ثم تراجعت أسعار النفط وانهارت البلاد. هناك بعض النقاشات تجري في البلاد، ولكنها تسير في اتجاهات مختلفة، ولا يريد أنصارها إجراء حوار. يؤمن"أنصار المجامع"بروحانية روسية خاصة والروح الجماعية، وهم يعتبرون الغرب عدواً وروسيا وريثة البيزنطية. وبالنسبة إلى السياسة الخارجية، هناك توجه إلى جميع خصوم الغرب، بما في ذلك الإسلام والدول الإسلامية، والصين حتى بداية القرن الحالي كان الشيوعيون أقوياء في هذه المجموعة. ولكن الآن يخشونها أيضاً. وبعد"أنصار المجامع"المنفصلين تماماً عن الحياة، يأتي أيديولوجيو"العقيدة الروسية"، مستندين إلى القيم الأرثوذكسية التقليدية في نسختها الحديثة مع التركيز على الوطنية المعتدلة، وينفون"الجماعية الخاصة"للروس بشكل مبرّر. ويبدو أن قيادة الكنيسة الأرثوذكسية الروسية الحديثة نسبياً تؤيد"العقيدة الروسية". لا يرحّب أنصار"الوحدة"و"العقيدة الروسية"بالفترة الأوروبية من التنمية الروسيّة. ولكن أنصار"العقيدة الروسيّة"يقبلون روسيا بكامل تاريخها. وإذا كان أنصار"الوحدة"يتخذون موقفاً إيجابياً حيال الفترة السوفياتية والستالينية من التاريخ الروسي، فإن أنصار"العقيدة الروسية"أكثر حذراً. تمثّل المجموعة الأولى الدوائر غير المنافسة من المجتمع الروسي، فيما تسترشد المجموعة الثانية بالبرجوازية القومية الصغيرة المتوسطة. يبدو أن هذه المدرسة لها مستقبلها، على رغم أنها متوجّهة بدرجة كبيرة إلى الماضي البعيد الذي لم يكن موجوداً أبداً. تنمو القومية المتطرّفة وكراهية الأجانب. وعلى رغم وجودهما الضئيل في دوائر المثقّفين الرسمية، إلا أن لهما حضوراً قوياً في المدوّنات والوعي العام. لا يعني شعار"روسيا للروس"عدم قبول الغرب فحسب، بل العالم الخارجي بكامله. ومن بين الروس المؤيدين لهذه الآراء، هناك أمزجة قوية معادية لسكان القوقاز وآسيا. كما أن هناك مزاجاً معادياً لليهود على رغم غيابه من خطاب القوميين الذين يسترشدون بالسلطات بدرجة أو أخرى. تسعى المدرسة الإمبريالية الجديدة أو السوفياتية الجديدة للنهضة، وشعارها الرئيس أن روسيا لا يمكنها أن تكون موجودة من دون إمبراطورية. ومعنى الوجود هو استعادة الاتحاد السوفياتي السابق، بما في ذلك استناداً إلى القوة العسكرية. هناك أعداء حولنا، ولا مفرّ من الحرب، ويجب الاستعداد لها. يجب بذل كل الجهود والقوى للدفاع وتطوير الجيش وقطاع التصنيع العسكري. يجب تأميم كلّ الملكية الخاصة الكبيرة، أي في الواقع العودة إلى طريق التعبئة العسكرية الاقتصادية التي سبق لها أن أهلكت البلاد الاتحاد السوفياتي. تجامل السلطة هذه المدرسة، ولكنها غير واعدة، ومن البديهي أنها غير واقعية. تزداد شعبية الأفكار اليسارية أكثر فأكثر. السبب بديهي، وهو عدم شرعية الملكية الكبيرة بسبب الخصخصة من دون وجه حق، وظلم المنظومتَين الاجتماعية والسياسية، وضعف المصاعد الاجتماعية للجزء النشط من السكان. وغياب استراتيجية واضحة ومقبولة للغالبية. لم تتطوّر الرؤية"اليسارية الجديدة"إلى تيار مستقل بعد، وتبقى في ظل"اليساريين القدماء"من الشيوعيين. يجري قمعها بقوة، لكنها تتمتع بآفاق قوية، على ما يبدو. يؤيد ثلاثة أرباع مواطني روسيا تأميم الملكية الخاصة الكبيرة. ومع ذلك، لا يستطيع أحد تحديد ما هي"الكبيرة". نعلم بالخبرة أنها كل ما هو أكبر من ملكيتي. يعني ذلك أنه في حال إجراء انتخابات ديموقراطية تماماً، فإننا قد نحصل على ثورة اشتراكية جديدة. يقترح جناح الساسة والمثقّفين الليبرالي الموالي للغرب وغير المستعد للمعارضة الحازمة، أحلاماً في شأن كيفية رؤيته روسيا وينتقد السلطة على التسلط. إلا أنه لا يلتفت إلى الوضع الحقيقي للبلاد والشعب، بل يسترشد بالمثل العليا التي يمكن الوصول إليها، والأقلية المتقدّمة. ويقترح الاسترشاد بأوروبا، كما كان الوضع عليه في السابق. إلا أن هذه الأخيرة فقدت جزءاً من جاذبيتها، وباتت تبحث عن نفسها. ليس من الواضح بأي أوروبا نسترشد؟ أوروبا الحاليّة المبتعدة عن المسيحية باتجاه قيم المساواة التامة والمجتمع الاستهلاكي الصائبة سياسياً؟ أو السابقة باقتصاد السوق الاجتماعي الديناميكي والديموقراطية النخبوية ومن دون إملاء الأقليات؟ أو تلك التي ستظهر بعد التأقلم العميق نتيجة الأزمة الحالية. لا تقترح الغالبية اليمينية"المبدعة"إلا الديموقراطية الشاملة والرفض شبه التام للسلطة وكل مبادراتها، ومقاطعة من هو مستعد للتعاون معها لاعتبارات المصلحة أو العقل. وعلى رغم الجودة والمستوى العالي لتعليم أفرادها، فإنها لا تقترح أي بديل لسياسة السلطات أو غيابها. ولذلك تضعف. أما النخب الحاكمة، فلا تقترح استراتيجية بديهية للتطور أو مشروعاً أيديولوجياً واضحاً. الأهم هو الحفاظ بطريقة ماهرة على انقسام النخب والمجتمع، واستخدام الدعاية لإبعاد أنظارهم عن مشكلات مهمة، على رغم أن ذلك غير منصوص عليه في السياسة الرسمية. وفي الوقت نفسه تنمو عناصر رد الفعل والقمع على رغم أنها تبقى محدودة حتى الآن. ومن المثير للقلق بصورة خاصة أن السلطات، حرصاً منها على تقييد ما تبقى من مرحلة التسعينات من التأثير الخارجي في الوضع الداخلي، تقمع في الواقع منظّمات المجتمع المدني التي تسمى أيضاً المنظمات غير الحكومية أو غير الربحية، وهي من أهم مصادر التطور. إن كل هذه الاتجاهات من الفكر مليئة بالتشاؤم التام. إذاً الفكرة الوطنية مطلوبة، ويجب تطوير الصلة الروحية بالوطن واستعادتها. يجب تجاوز"الفوضى في الرؤوس"وفقدان الثقة، ووضع هويّة تتطلع إلى المستقبل وتستند إلى الإدراك الواقعي لنقاط الضعف والقوة، والجذور. المشكلة بالنسبة إلى روسيا أكثر حدة، فمن دون إدراك من نحن وإلى أين نريد أن نتوجه، فإنه سيكون محكوماً علينا في أحسن الأحوال بتراجع موقفنا الذي بدأ في العالم. وفي أسوأ الأحوال تكرار ما حدث في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات من القرن الماضي. * الرئيس الفخري لمجلس السياسة الخارجية والدفاع