تتوالى تطورات"الربيع العربي"على نحو متفاوت في البلدان التي طاولتها الأحداث التي ساهمت في تغييرات غير مكتملة حتى الآن. ففي مصر كنموذج للثورة المستمرة منذ 25 كانون الثاني يناير 2011 حتى 30 حزيران يونيو 2013 عبر حشود متفاوتة في ميدان التحرير وميادين المدن الأخرى، وصل مرسي إلى سدة الرئاسة في انتخابات سبقت وضع الدستور الذي كان يطالب بإنجازه الحراك الثوري، الحراك الذي أطلق الثورة منذ البداية ضد السلطة الأمنية الإستبدادية تخلف عنها الإخوان بإعلان في 24 كانون الثاني بعدم المشاركة في تظاهرة 25 منه، وبعد نجاحها قرروا التظاهر في 28 كانون الثاني. وبعد تنحي الرئيس حسني مبارك لم تأتِ الانتخابات واضحة المعالم بموجب دستور، كتتويج لمستلزماته القانونية، تجمع عليه تيارات الشعب المصري، إذ تسلّم الجيش السلطة في البداية وبرز تخبطه وعدم وضوح دوره، إلا بما يحمي مصالحه. ولم يعمد الى تسهيل مطالب الحركة الشبابية الواضحة، حرية وكرامة إنسانية وعدالة اجتماعية وديموقراطية، والمطالب بدورها لم تكن موحدة كونها ليست انعكاساً لمجتمع متبلور طبقياً ولدولة مؤسسات دستورية ولإقتصاد صناعي، وإنما تشكلت كنتاج للثورة المعرفية التقنية، وتواصلها مع تأثيرات العولمة التي لم يكتمل عقدها بعد، وللفقر والظلم والمهانة واليأس من المستقبل والإسترقاق. لهذا فإن الديموقراطية المصرية مأزومة بسبب غياب الإقتصاد المنتج والمجتمع المتشكل طبقياً والمكتفي معيشياً والمنظم سياسياً، وبسبب من التفاوت بين الريف والمدينة وهيمنة أحزاب ماضوية وديماغوجية، دينية وقومية ويسارية، وانحسار الدور المصري خارجياً..الخ. وعليه فإن الديموقراطية ما زالت بعيدة حتى يستوي وضع المجتمعات التي أصابها التغيير غير الناضج - الواضح حتى الآن. إن حركة"تمرد"، مثلاً، المدعومة من قيادات سياسية وطنية وليبرالية يسارية ما زالت تبحث عن المسارات التي تأخذها إلى نقاط الوصول من أجل بناء الدولة الديموقراطية كإنعكاس للعقلية الحداثية، على قواعد العلمنة والعقلانية والعدالة والمساواة وحقوق المرأة، والتصميم على ملاقاة شعارات العولمة حول حقوق الإنسان والدولة الرعائية المتحولة إلى إدارية، وضد الجريمة المنظمة والحروب والإرهاب والعنف والمخدرات والأمراض والعصبوية الحزبية والقوقعة السياسية. اقتصاد المعرفة سيّل الطبقات في الغرب وحولها إلى فئات اختصاص في بلادنا لم تظهر الطبقات بسبب من تخلفنا ما دون الدولة الأمة والإقتصاد الصناعي..الخ وشظّىَ النقابات وجعلها بيئات متنوعة سي. جي. تي. في فرنسا أضحت سبعة فروع تمارس اختصاصاتها استجابة للثورة المعرفية - التقنية. وأدى اقتصاد المعرفة أيضاً الى تبديل طبيعة الأحزاب من هرمية مركزية إلى خيارات فردية، على رغم مسارعتها للوصول إلى الحكم الذي تحول إلى إدارة، من دولة سلطوية إلى ديموقراطية رعائية إلى دولة رفاه، ومن وطنية - قومية إلى إقليمية إلى قارية غير مكتملة ولكنها مضطرة للسير في ركاب العولمة ومسيرة اكتمالها. أما بلادنا فما زالت تعيش الما قبلية، من انتماءات عائلية وعشائرية وقبلية وطائفية ومذهبية ودينية وجهوية جغرافية، تستورد عموماً 65 في المئة غذاء و70 في المئة ألبسة و100 في المئة طب وهكذا مواصلات وإتصالات و100 في المئة علوم بحار وفضاء ومناخ ومحيطات وباطن أرض. وتصل الأمية إلى 50 في المئة كلية ومقنعة، هذا عدا إنتاجها غير الريعي الذي لا يتجاوز 200 بليون دولار وهو أقل من إنتاج الكيان الصهيوني السنوي الذي يبلغ عدد سكانه سبعة ملايين ونصف المليون. فيما العرب حوالى 375 مليوناً، لأنهم يخضعون للإقتصاد الريعي والحلقي - التفتيتي والمافيوزي - البلطجي، مما يجعل بلادنا مطية ترزح تحت نير المؤثرات والتوازنات الخارجية، بعد أن أصبحت المنطقة وعروبتها ساحة تستقبل عوامل عدم الإستقرار والتشرذم والإنقسامات من دون إغفال الأسس الداخلية التي تثير الشعب العربي ضد أنظمته الإستبدادية المتمثلة بالسلطات الدينية والأمنية والأسروية. الأمر الذي يؤكد أهمية البنية الإجتماعية المرتكزة إلى الإنفصالية العربية أقله من عهد محمد علي باشا مروراً بمرحلة عبد الناصر وصولاً إلى الثورات العربية الناتجة من رد فعل ثوري على كل المظالم لإزاحة استبداد السلطة الأمنية. لكن شعوبنا تثبت قوتها بعد كسر حاجز الخوف متحولة إلى أحرار يولدون من جديد ويستفيدون من منتجات الثورة التكنولوجية التي حولت الأرض إلى قرية كونية متصلة ومتجاوزة إيجابياً حالات التطور الكلاسيكي، مطلوب من القوى المتنورة أن تنسجم مع الشباب أبناء العولمة التي تحتضن كل مناحي النهوض والتنمية في كل المجالات وعلى كل المستويات. الحركة الشبابية غنية بالكثير من المعلومات التي دفعت بحراكها في شكل قفزات أثرت في الداخل ونسبياً في الخارج. كما حصل في تركيا وربما إيران وإمكانية مطاولة إسرائيل، مما يعني شق طريق تجديدي يتصل بمجتمعات العولمة التي دخلها الشباب عبر السفر والهجرة والتواصل والإحتكاك والتفاعل من دون المرور - الخضوع بقواعد التطور التقليدي للدخول في اقتصاد المعرفة الذي لا ينضب بعد تطوير البنى المتخلفة. وقد رأينا شباب مصر"تمرد"يجذبون غالبية الشعب المصري من الفقراء ومعظم الفئات في الريف مروراً بالفئات المتوسطة وصولاً إلى الأحياء الشعبية في المدن، حتى أنهم لم يتركوا بمرابضتهم في ميدان التحرير"الإخوان المسلمين"يحكمون أكثر من سنة، بعد أن أظهر"الإخوان"عقليتهم الإستبدادية المعادية للديموقراطية والمدنية والتنوع، وتلاعبوا بالكثير من القوانين والقواعد، لأخونة"الدولة"والمؤسسات ومعاداة الإعلام والقضاء والتعدد والحريات والمرأة نحو تحويل الوطن إلى إمارة إخوانية، وهذا ما دفع الثورة إلى إنهاء حكمهم ولن تتوقف الثورة إلا مع بناء الدولة الديموقراطية والتأثير في محيطها لإسقاط الإسلام السياسي العربي والخارجي رغم الصعوبات والإختلافات من تركيا إلى إيران.. الخ. لقد انطلق الداخل، ولن يقفل الباب على الإستفادة من الخارج، وقام باختراق الدوائر المقفلة وتوسيع الضيقة واجتياح العصبويات والماضويات والمعوقات، بقوة ومرونة العولمة التي لم تكتمل بعد إلا إذا وطأت أقدامها كل بقاع الأرض... والكون، مما يستدعي التهيؤ عبر تطوير بنانا التحتية والفوقية، وتوفير شروط التقدم وإنجاز متطلبات الإقتصاد المنتج للدخول في اقتصاد المعرفة كأساس للعولمة. إننا في امتحان صعب وقاسٍ، نختبر فيه مدى قدرتنا على البناء الديموقراطي واللحاق بكل الميادين التي تخوضها الحركات الشبابية، لتنهي الغربة عن العولمة وتفتح آفاق التطور على مستقبل متجدد ولا نهائي. * كاتب لبناني مقيم في فرنسا