لا بد من الاعتراف بأن منسوب التفاؤل لدى الفلسطينيين حيال وصول الجولة الجديدة من عملية المصالحة الوطنية ما بين حركتي"فتح"و"حماس"، إلى نهاياتها المأمولة، في أدنى مستوياته، وذلك على رغم تراكم الخطوات والتصريحات المتعلقة بترجمة نقاط الملحق التنفيذي ل"إعلان الدوحة"الذي وقَعته الحركتان في الحادي والعشرين من أيار مايو الماضي. ومشروعية هذا التشاؤم الشعبي بإمكانية عبور المصالحة الفلسطينية عنق الزجاجة، العالقة فيه منذ سنوات، لا تستند فقط إلى التجارب الفاشلة التي ساهمت في تكريس الانفصال السياسي والاقتصادي والجغرافي والمجتمعي ما بين شطري الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، وإنما تتوكأ كذلك على عوامل ومعطيات واقعية وموضوعية لها علاقة بشكل ومضمون القضايا التي تم الاتفاق عليها، ومستوى إحاطتها، أو حتى ملامستها، لجوهر ونسغ الإشكالية الوطنية، من جهة. في الشق الفلسطيني الداخلي، ينبغي التذكير، وبصرف النظر عن المؤشرات السلبية المعيقة للإقلاع بنقاط التفاهم بين كل من"فتح"و"حماس"، من نمط تجدد الاتهامات ما بين الحركتين حيال قضيتي الاعتقال السياسي والتضييق على مؤسسات المجتمع المدني، بأن الحكومة المقبلة التي تم التوافق حولها لن تكون معنية بالقضايا الجوهرية المتعلقة بإحياء المشروع الوطني الفلسطيني، وإعادة تشكيل منظمة التحرير، وصياغة برنامج سياسي يجسِّد القواسم الوطنية المشتركة، وتوحيد المؤسسات، خصوصاً الأجهزة الأمنية، والاتفاق على إستراتيجية لمواجهة التحديات والمخاطر التي تهدد القضية الفلسطينية، وأن مهمتها تتحدد، بشكل أساسي، بإنجاز الانتخابات، ما يعني أن الألغام التي سبق وأن فجَرت حكومة الوحدة الوطنية التي تشكلت عقب فوز"حماس"في الانتخابات التشريعية عام 2006، ستبقى جاهزة لتفجير الحكومة الجديدة، في حال تجاوز الأخيرة اختبار التشكيل، وتذليل عقد ما يسمى"الوزارات السيادية"ونواب رئيس الوزراء، وعرضها على المجلس التشريعي المنتهية ولايته، من عدمه، واختبار تأثير الانتخابات الرئاسيّة المصريّة، وعودة عشرات آلاف الموظفين المستنكفين والمفصولين، وتوفير الموارد اللازمة لهم. بكلام أكثر تحديداً، ستجد الحكومة نفسها، ومنذ اليوم الأول بعد التشكيل، أمام رزمة من الاستحقاقات والعقد والعقبات التي يصعب القفز فوقها بكلام إنشائي عام لا يقارب الإشكاليات الحقيقية التي تنتصب أمام الفلسطينيين، لعل أبرزها عقدة البرنامج السياسي الذي سيبقى عرضة للتنازع والتفسيرات المختلفة، ولا سيما في ظل تضارب التصريحات حيال الإقرار بأن تكون السياسة من اختصاص منظمة التحرير بعد إعادة تشكيلها، أو اعتماد وثيقة الوفاق الوطني وثيقة الأسرى كبرنامج سياسي للحكومة، فضلاً عن تلميح أوساط السلطة بأن برنامج الحكومة هو نفس برنامج رئيس السلطة محمود عباس الذي سيتضمن الالتزام ب"خيار السلام"وشروط اللجنة الرباعيّة الدوليّة، وهو ما ترفضه"حماس"التي ستكون مطالبة بالإجابة عن الأسئلة الأميركية والدولية، بهذا الخصوص، فور تشكيل الحكومة، فيما ستشكل العقدة الأمنية التي لم يجرؤ الطرفان على إثارتها خشية تعطيل تشكيل الحكومة، التحدي الأكبر للجانبين اللذين يصرَان على إبقاء الوضع على حاله، ما يعني أن الحكومة المقبلة ستكون مضطرة للاعتماد على أجهزة أمنية مختلفة في الولاء والمرجعية والأهداف. في الضفة الأخرى، ومع أن حجم وتأثير العقدة الإسرائيلية ظهرا بوضوح في الملحق التنفيذي ل"إعلان الدوحة"من خلال وضع بند يتحدث عن احتمال تعذر إجراء الانتخابات، والدعوة، في هذه الحالة، إلى تشكيل حكومة وحدة وطنيّة بعد ستة أشهر برئاسة شخصيّة مستقلة، وهو ما ترجحه أوساط فلسطينية متعددة، رغم ربط رئيس السلطة محمود عباس إعلان تشكيلة الحكومة الجديدة بإصدار مرسوم يحدد موعد هذه الانتخابات، وذلك انطلاقاً من التقدير بأن إسرائيل تستطيع وقف تحويل العائدات المالية الفلسطينيّة، وتعطيل عمل الحكومة ومنع تحرك الوزراء من خلال المضايقات والاعتقالات، إلا أن ذلك لا يشكَل، في الواقع، سوى أحد الجوانب الشكلية للمعضلة التي ترتسم في متنها حقائق جغرافية وديموغرافية وسياسية متسارعة من شأنها تحويل كل الحراك الداخلي الفلسطيني والعربي المتعلق ب"المصالحة الملتبسة"إلى مجرد"طبخة بحص"لا وظيفة لها سوى تقطيع الوقت. إذ لا يمكن، وتحت ضجيج محاولات تسويق سلع التفاؤل غير القابلة للاستهلاك، تجاهل تحوَل المدن والتجمعات الفلسطينية والضفة الغربيةالمحتلة إلى معازل حقيقية مزنرة بالمستوطنات الكبرى والمتوسطة والبؤر القابلة للتوسع والتمدد، فيما يتم استكمال دائرة تهويد القدسالمحتلة التي انخفض عدد الفلسطينيين في شطريها إلى نحو 38 في المئة من عدد السكان، وعزل جدار الفصل نحو 90 ألفاً من أهلها عن أراضيهم ومدينتهم، ولا سيما بعد إقرار بلدية الاحتلال في المدينة المقدسة، قبل أيام، خطة لبناء 2500 وحدة سكنية بمستوطنة"جيلو"في جبل أبو غنيم، ليتم توسيع المستوطنة غرباً، وتعهد نتانياهو ببناء مئات الوحدات الاستيطانية الجديدة في مستوطنة"بيت ايل". وعلى نحو مواز، وفي ظل دعوة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو ووزير حربه ايهود باراك إلى إقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح تعترف بإسرائيل ك"دولة يهودية"، وإجراء انسحاب أحادي الجانب من بعض مناطق الضفة الغربية، وإعلان نائب رئيس الحكومة"الإسرائيلية"موشيه"بوغي"يعلون، الذي يعتبر من أشد الناس قرباً من أذن نتانياهو، أن"حل الدولتين"وإنهاء الصراع، مجرد"خداع للذات"، وتحت وطأة محاصرة التجمعات السكانية الفلسطينية، وخضوع معظم أنحاء الضفة الغربية للمستوطنين و"دولتهم"القائمة دون إعلان، فإن ثمة مشهداً جديداً بات يدب على الأرض قوامه، دولة قوية للمستوطنين تتمتع بمجال جغرافي واسع، ومعازل فلسطينية ضعيفة مفتتة ومحاصرة تعتاش على المساعدات والمنح الخارجية، ما يفتح الباب واسعاً أمام رسم معادلة جديدة من شأنها إعادة إنتاج ذات المخططات القديمة المتعلقة بإحياء ما يسمى"الخيار الأردني"، مع إضافة أساسية تقول إن المكان الطبيعي لإقامة الدولة الفلسطينية هو قطاع غزة الذي يمكن توسيعه نحو الشرق على حساب الأراضي المصرية في شبه جزيرة سيناء. * كاتب فلسطيني