لا شك ان القاريء البريطاني العادي يشعر بالتفاؤل حيال التحركات الأخيرة لتسوية الصراع المرير المستمر منذ نحو قرن بين العرب والاسرائيليين: ألم يتسلم ذلك الانسان الطيب ايهود باراك السلطة من الشرير بنيامين نتانياهو؟ ألم يحرص باراك على استضافة ياسر عرفات في بيته للتأكد من أن كل شيء سينتهي على ما يرام؟ واذ لا تستبعد الصحف رغم ذلك قيام بعض المشاكل، فهي تؤكد في الوقت نفسه ان الرئيس بيل كلينتون سيتدخل لحلها قبل مغادرته البيت الأبيض. لكن الوضع الحالي ليس بهذه البساطة. ان باراك بالطبع أفضل بكثير من ذلك التعيس نتانياهو، لكن المراسلين البريطانيين، المقيمين عادة في اسرائيل، لا ينقلون الى قرائهم ما يقوم به رئيس الوزراء الجديد في المستوطنات الاسرائيلية في الضفة الغربية، ولا يحذرون من ان هذه السياسة ستقف حائلا دون التوصل الى اتفاق دائم. أما من ناحيتي، فلم يسبق لي، خلال خبرتي الطويلة في شؤون الشرق الأوسط، أن أرى هوة بهذا الحجم بين الأقوال والأفعال. حركة "السلام الآن" من بين التنظيمات السياسية المسؤولة في اسرائيل، وتعتني في شكل خاص برصد النشاط الاستيطاني الاسرائيلي ومعارضته، وهي من بين أفضل من يعرف ماذا يجري هناك بالفعل. ونشرت الحركة نهاية الشهر الماضي تقريرا على قدر من التفصيل عن توسيع المستوطنات لا بد من اعتباره جرس انذار بالخطر المحيق بعملية السلام من جراء هذه السياسة. المفاجأة التي حملها التقرير كانت أن حكومة باراك أصدرت خلال الشهور الثلاثة الأولى من تسلم السلطة أذوناً لبناء المستوطنات بوتيرة أسرع مما كان ذلك في عهد نتانياهو. فقد طرح وزير الاسكان الحالي اسحق ليفي، من الحزب الديني الوطني، على المناقصة انشاء 2600 وحدة سكنية، فيما كانت حكومة نتانياهو أذنت خلال سنة بانشاء ثلاثة الاف وحدة سكنية. الواقع ان باراك أعلن موقفه من المستوطنات بوضوح تام قبل الانتخابات. فقد عارض اقامة المزيد منها لكن مع الموافقة على توسيع المستوطنات الحالية وعدم ازالة اي منها. واذ أملت القيادة الفلسطينية انه سيغير موقفه بعد تسلم السلطة لكي يساعد عملية السلام، فقد جاء قرار وزير الاسكان، الذي لا بد ان حظي بموافقة باراك، ليشير الى النقيض. وقال المسؤول الفلسطيني صائب عريقات: "اذا لم يلغ باراك هذا القرار فورا فإنه يجعل مفاوضات الوضع النهائي دون معنى"، وهو رأي تصعب مخالفته.في 14 من الشهر الماضي، اليوم نفسه الذي تكلم فيه باراك لاعضاء حكومته عن اللاجئين الفلسطينيين مؤكدا "عدم السماح أبدا بإسكانهم داخل حدود اسرائيل"، قام بزيارته الأولى الى مستوطنة معالي ادوميم، وهي حالياً الأكبر في الضفة الغربية. وكان الهدف من المستوطنة قطع الضفة الغربية الى شطرين عن طريق الوصل ما بين القدس وأريحا. أي انها تخنق المراكز السكنية الفلسطينية في القدسالشرقية ومحيطها، وتجعل من الصعب تصور تسوية معقولة للقدس. كما اجبرت بدو الجهالين، الذين يبدو ان ليس من يهتم بمصيرهم، على السكن في حاويات قديمة قرب واحدة من مزابل القدس. وأذهلني ان اقرأ ان معالي ادوميم ستصبح اكبر مساحة من تل أبيب وان سكانها سيزيدون من 20 الف الى 80 ألف مستوطن. وقال رئيس الوزراء للمستوطنين الذين استقبلوه بحماس: "كل شجرة زرعت هنا وكل بيت وحجر جزء الى الأبد من دولة اسرائيل". انه ذلك الوجه الآخر لباراك "الطيب" الذي تحرص وسائل الاعلام البريطانية على اخفائه. المادة 49 من ميثاق جنيف الرابع تقول بوضوح: "على القوة المحتلة ان لا تبعد او تنقل أقساما من مدنييها الى الأراضي التي تحتلها". لكن اسرائيل وضعت 400 ألف مستوطن في نحو 200 مستوطنة في الأراضي المحتلة. واقيمت غالبية الوحدات السكنية الأخيرة ضمن حدود القدس الكبرى. كما لم تفكك اسرائيل، ولا يتوقع لها ان تفكك، أيا من المستوطنات ال42 التي اقيمت بوقاحة على اعالي التلال منذ اتفاق واي الأول في تشرين الثاني 1998. وكان فيصل الحسيني، عضو الهيئة التنفيذية لمنظمة التحرير المكلف ملف القدس، حذر من أن توسيع وبناء المستوطنات يمكن ان يؤدي الى كوسوفو جديدة. انه تعليق في مكانه. اذ لا يتوقع للفلسطينيين في الضفة الغربية، مهما كان الاتفاق في النهاية بين قيادتي الطرفين، القبول ببقاء هذه المستوطنات الموسعة والمدججة بالسلاح، وهو موقف مفهوم تماما. * سياسي بريطاني، مدير "مجلس تحسين التفاهم العربي - البريطاني".