قوة الأنظمة على الصمود تفوق التوقعات، لكنها تتداعى وتسقط في وقت أبكر مما نحسب"، يقول كبير اقتصاديي صندوق النقد الدولي السابق، كينيث روغوف. والعبارة هذه هي مرآة حال الاقتصاد العالمي اليوم. ويرى حاكم مصرف انكلترا ان الازمة المقبلة قد تكون أفدح من ازمة 1930. وجلي أن منطقة اليورو تتعثر، وتواجه مشكلات كبيرة. لكن الولاياتالمتحدة والصين، ويُقال أنهما محركا الاقتصاد العالمي، ليستا في حال افضل. فكل منهما قنبلة موقوتة تنتظر الانفجار. ديْن الولاياتالمتحدة يبلغ 358 في المئة من ناتجها المحلي. ويفوق حجم الفقاعة العقارية الصينية 3 اضعاف حجم الفقاعة العقارية الاميركية قبل ازمة الرهون العقارية. وبدأت الفقاعة الصينية بالانفجار. في مثل هذه الظروف الدولية، لا يسع الحزب الفرنسي الحاكم، سواء كان الى اليسار أو الى اليمين، التعويل على انبعاث النمو. فحظوظ دوران عجلة النمو ضئيلة. والحق ان سياسة التقشف ليست الحل اليتيم للأزمة. فالتاريخ حافل بتجارب دول نجحت في كسر دائرة الموت المغلقة والخروج منها. ففي 1933، بلغ الرئيس الاميركي، فرانكلين روزفلت، السلطة، وكان عدد العاطلين من العمل في الولاياتالمتحدة يومها 14 مليوناً، وتقلص الانتاج الصناعي 45 في المئة في ثلاثة اعوام. وبادر روزفلت الى اجراءات حازمة ونافذة بعثت الثقة في الاسواق: أُعدت مشاريع قوانين، ونوقشت وأُقرت في يوم واحد. ولم يرمِ روزفلت الى طمأنة الاسواق بل الى"ترويضها"، وسعت القوانين الى ارساء العدالة الاجتماعية. وأثارت القوانين هذه غضب حملة الاسهم والمستثمرين في المصارف، وعارض هؤلاء الفصل بين مصارف الايداع ومصارف الاعمال، واحتجوا على فرض الضرائب على المداخيل الاعلى واستنباط ضريبة فيديرالية على الأرباح. لكن روزفلت لم يتراجع، ودعا الكونغرس الى اقرار 15 اجراء اصلاحياً جذرياً في 3 أشهر. ولم تقع الكوارث التي تنبأ بها الخبراء الماليون. وانضبط الاقتصاد الاميركي بعقال هذه القوانين طوال نصف قرن. ولم يكن ما أنجزه روزفلت في القطاع الاقتصادي كافياً، لكن الاصلاحات التي أرساها في القطاع المصرفي والمالي بلغت مآربها وأهدافها. وإلى حين وصول رونالد ريغان الى سدة الحكم في 1981، لم يتعثر الاقتصاد الاميركي، ولم يضطر الى اللجوء الى دَيْن عام أو خاص. وطوال ثلاثين عاماً، رعت القواعد"الفوردية"التقسيم العادل للقيمة المضافة بين الموظفين وأصحاب الاسهم. ونجم عن سياسة اطلاق يد الاسواق طوال 3 عقود خفض قيمة الرواتب من 67 في المئة الى 57 في المئة من الناتج العام في دول منظمة التعاون والتنمية الاقتصاديين، فارتفع الدَّيْن العام، اثر تقلص حجم الضرائب على الرواتب والاستهلاك، وهي أبرز موارد الدولة المالية، وتعاظم الدَّيْن الخاص جراء اضطرار الموظفين الى الاستدانة للحفاظ على مستوى العيش ذاته. وقد لا يروق ما أقوله للنيوليبيراليين، ولكن نحن لا نواجه ازمة دولة الرعاية، بل أزمة الرأسمالية. والازمة هذه استفحلت استفحالاً أبطل أثر اجراءات دولة ? الرعاية الكلاسيكية، وأضعف نجاعتها. والعدالة الاجتماعية ليست ترفاً يُستغنى عنه في الازمات. فإرساؤها مجدداً هو السبيل الوحيد الى الخروج من الازمة. وثمة خياران امام الرئيس الفرنسي المقبل: اعتبار ان الازمة انقضت، وانتهاج سياسة ادارة الاموال العامة لتجاوز الاشهر الصعبة التي تفصلنا عن انقشاع غيوم الازمة، أو اعتبار ان الوقت يدهمنا وينفد، وأن الانهيار الاقتصادي وشيك والحاجة ماسة الى إجراءات"روزفلتية": صوغ عقد"بريتون وودز"مالي جديد في تموز يوليو المقبل، وسحب الامتيازات الهائلة من المصارف الخاصة في تمويل الدين العام، ومكافحة الجنّات الضريبية، والتصدي للبطالة من طريق إنشاء هيئات اركان تستنبط فرص العمل وتبحث طوال 3 اشهر مع مختلف الشركاء في صوغ عقد اجتماعي جديد، على نحو ما فعل الهولنديون في 1982. ويفترض باليسار الاوروبي ان يتصدى لتداعي النموذج النيوليبيرالي ويمتص صدمات انهياره قبل الانزلاق الى الهاوية وانتهاء الازمة الى بزوغ البربرية على ما حصل في 1930. * خبيراقتصادي، عن"لوموند"الفرنسية، 2/5/2012، إعداد م.ن.