انفجرت أزمة الرهونات العقارية العالية المخاطر، في 2007، عندما هبطت قيمة سندات القروض التي سلفتها المصارف أو الصناديق الى الأسر ذات الدخل المحدود (أسْت - بيْكيد سيكوريتيز ABS). والسبب في هبوط قيمة هذه السندات هو عدوى عجز عن التسديد انتشرت في صفوف المقترضين غير الميسورين. وكانت ركدت أسعار السوق العقارية الأميركية الفخمة، في أواخر 2006، جراء توقف السوق هذه عن التوسع، وقصورها عن تلبية حاجة الفقاعة العقارية الى التمدد. وحين ظهور أعراض الأزمة في شباط (فبراير) 2007، كان حجم الخسائر المتأتية من التوقف عن التسديد معروفاً. وانقضت 6 أشهر الى آب (اغسطس) 2007، في اثنائها خسرت السندات على قروض اصحاب الدخل المحدود مشتريها، أياً كان ثمن عرضها عليهم. فسادت الشكوك سوق المعاملات الرأس مالية بين المصارف، وظن كل مصرف في شريكه أو زميله العجز عن التسديد، والتعرض للمشتقات المسمومة، واحتواء محفظته شطراً كبيراً منها. فأصابت إذ ذاك الأزمة القطاع المصرفي كله، الوطني المحلي والعالمي. وتهددت الأزمة المؤسسات المالية بالتوقف الكامل عن التسديد. والحل الأول للأزمة الهاجمة هو إنشاء مصارف تمتص الأصول المريضة، بعد تمييزها من الأصول الصحيحة. وسبق ان أنشئت مصارف على هذا المثال في 1933، في إطار «العقد الجديد»، وفي 1989، علاجاً لأزمة صناديق التوفير الأميركية. وأصابت بريطانيا، في 2008، بأزمة تشبه الأزمة الأميركية. وفي كلتا الحالين بلغت نسبة مديونية الأسر فوق 100 في المئة من مدخولها السنوي الصافي. وحملت الحسابات البريطانية الدولة على ترك هذا الحل والتخلي عنه حين تحقق ان كلفة إنشاء شبكة مصرفية تمتص الأصول الفاسدة لا تحتملها المالية العامة. وحدها ألمانيا اختارت هذا الحل، بينما انصرفت الولاياتالمتحدة وبريطانيا الى حل بديل وأقل كلفة يقضي بتجديد رسملة المصارف المهددة. وتتولى المصارف، في هذه الحال، أصولها المسمومة بنفسها، على ان تعطى الأموال التي يضمن لها احتياط يفوق مستوى ملاءة التسديد. والحق ان هذا الحل أضعف من شبكة امتصاص الأصول الفاسدة، وأقل أماناً، ولكنه أضعف كلفة من الشبكة. واحتسبت قيمة تجديد رسملة القطاع المالي على أساس سعر ثابت للسوق العقارية. وفي الأثناء، كان السعر يتردى، وانتشرت عدوى الأزمة المالية في الاقتصاد، وتعاظمت البطالة، وتفشى العجز عن التسديد خارج دائرة الرهونات العقارية العالية المخاطر المباشرة. وقياساً على هذا، بدت الرسملة حلاً موقتاً وغير مستقر، واقتربت المصارف تدريجاً من التوقف الكامل عن التسديد والتداول. والتمست المؤسسات المالية الحل في تسعير الأصول المسمومة، حين ظهورها في موازنات المؤسسات، فوق سعر السوق المعتمد الى حينه. فأسرعت رابطة المصرفيين الأميركيين («أميريكان بانكرز اسوسييْشن») الى طلب تعديل المادة 157 من قانون المحاسبة، وهي المادة التي تسن قواعد التقويم في الموازنات. وتقدمت الرابطة بطلبها في 12 آذار (مارس) 2009 إلى مجلس معايير المحاسبة المالية الأميركي (FASB) بواسطة برلمانيين، وأقر التعديل في 4 نيسان (ابريل). وخوّل المصارف التسعير بأسعار «أقرب الى الواقع»، وعلى «ميزان النموذج». وقال المستثمر المعروف وارن بوفيت ان تسعيرها على «ميزان الأسطورة»، فمعيار التسعير هو سوق لا تشكو أزمة. واقتفى حاكم المصرف المركزي الأوروبي، جان - كلود تريشيه، مثال المجلس الأميركي، ولبت المفوضية الأوروبية الطلب على مضض. وعلى هذا، ختمت المؤسسات المالية الأميركية التسديد المصرفي بوسائل «غير تقليدية» ولا معهودة. وأقر المصرف التجاري ويلز فارغو أن قاعدة المحاسبة الجديدة خولته زيادة ممتلكاته 4.4 بلايين دولار. وشهدت البورصة الأميركية منذ 4 نيسان، زيادة في أسعار الأسهم دامت الى منتصف حزيران (يونيو). وصادف في 4 نيسان اختتام مجموعة العشرين قمتها. فعزت الصحافة تحسن البورصة الى القمة العتيدة، على خلاف الحقائق والوقائع. وضحية الإجراء الأولى هي الشفافية. ولكن ما ينبغي ألا يغفل هو ان الاختيار بين مصرف الامتصاص وبين تجديد رسملة المصارف المهددة بالتوقف عن التسديد، لم يكن واقعياً أو فعلياً، فحجم كلفة مصرف الامتصاص فاق طاقة الهيئات العامة. وكانت الرسملة المصرفية بئراً لا قاع لها في الحال المتردية يوماً بعد يوم، وفي ضوء الأمرين الممتنعين، بدا تزوير الأرقام ضرورياً. ووحده تعليق التوقف التام عن التسديد في وسعه تجنيب الآلة الاقتصادية الشلل التام. وعندما أعلنت أرقام الخسائر التي أصابت النظام المالي، وهي بلغت تريليونات او آلاف بليونات الدولارات، شُده الجمهور. وبلغت ديون المصارف والمؤسسات المالية بعضها على بعضها الآخر، وقيمة العجز عن التسديد، المبالغ نفسها. وكان على التمويل المفترض ان يتولاها، وينهض بها. وتتهدد النظام المالي في هذه الحال أخطار قاصمة. والقول ان المصارف المركزية تطرح نقداً حين تقتضي الحال طرح النقد الإضافي لا يُغفل ان النقد هو نظير ثروة ولّدها الاقتصاد. وهذه المرة، لم يكن النقد نظير ثروة بل لقاء ثقب ضخم لا ينبغي سده بالوسائل المتاحة. وبلغت قيمة إصدارات السندات (المتوقعة) في 2009، في العالم كله، 5300 بليون دولار، 3018 بليوناً في الولاياتالمتحدة. ويساوي المجموع 9 في المئة من الناتج الإجمالي الداخلي في العالم في 2008. وليس هذا في متناول النظام المالي. وبلغ دين الموازنة الأميركية في 2009، نحو 11 ألف بليون دولار. ويتوقع ان يزداد ألف بليون في السنة طوال الأعوام العشرة القادمة. وعليه، يبلغ دين الموازنة 20 ألف بليون دولار في 2019، على شرط ألا تزيد الفائدة عن متوسط 3 في المئة. وتساوي الفوائد 30 في المئة من الموازنة الاتحادية. وهذه نفقات لا تطيقها أمة، ولا ترتضيها. وأزمة 2009 غير مسبوقة. فالرأسمالية المهددة لم يسعها الخروج من الأزمة بوسائل «تقليدية» في متناولها، ولا بوسائل «غير تقليدية» ولكنها في مطالها. وأدخل الحل، اي تزوير المحاسبة، النظام المالي الدولي في حقبة التشبيه والمحاكاة. وأُنقذ المصرفيون قبل الأسر، على شاكلة «تايتانيك» وأتحيت فرصة لتعظيم المصرفيين نفوذهم. ومنذ 1975، زعم الرأي الاقتصادي الغالب ان التدبير الاقتصادي يتولاه تقنيون لا شأن لهم بالسياسة، ولا شأن للسياسة في إجراءاتهم ومقترحاتهم. ولو شاء التقنيون التدخل لحالت غلبة تحرير الاقتصاد من القيود والخصخصة، في اثناء ال35 سنة المنصرمة، بينهم وبين مغالبة الوجهة الطاغية. فالنظام المالي خرج من دائرة التدبير والإجراء. وانفرد مدراء المصارف، وكبار موظفيها، بهذين، من غير رقيب ولا حسيب. فوزعت مصارف جي بي مورغان تشايز وغولدمان ساكس ومورغان ستانلي علاوات ومكافآت ب18 بليون دولار، نسبتها من ال45 بليوناً التي بلغتها قيمة التقديمات 40 في المئة. فصح في الحكومة الأميركية اسم «حكومة ساكس»، كناية عن عمل وزير الخزانة السابق هنري بولسون في المصرف العتيد. وذهب سيمون جونسون، رئيس اقتصاديي صندوق النقد الدولي سابقاً، الى نعت إدارة أوباما ب «الأوليغارشية». وحمل إجراءاتها على هزيمة الحكم أمام «الأوليغارشية»، نافخاً في بوق ثوري. ولم تشارك بقية العالم الولاياتالمتحدة تقوقعها على تجديد الرأسمالية في صيغتها القديمة. فبريطانيا أقرت تأميمات لم تخشَ تسميتها باسمها (رويال بنك أوف سكوتلند)، وتنصيب موظفين على رأسها. وتلكأت الحكومة الأميركية، على خلاف الحكومة الصينية، عن انتهاج سياسة عمالة روزفلتية، وترددت في إقرار خطة حماية مرافق عمل. وأسهمت السوق الصينية في تحسين الصادرات اليابانية في الشطر الثاني من 2009. وبعض الشركات الأميركية، مثل «انتل» الإلكترونية، تدين الى المستهلك الصيني بأرقامها المرتفعة. وهذا من أعراض الضعف الأميركي، ومن القرائن على دخول الرأسمالية طوراً غير معهود. ف «خصخصة» الأرباح والإشراك في الخسائر، حل يعصى على التطبيق بعد ان بلغت الخسائر حجماً يفوق الشراكة فيها، وعجز المكلفون عن تسديده. وحين يحل نظام جديد محل الرأسمالية، فلن يبدو ان نظاماً جديداً خلّف نظاماً معطوباً، بل يبدو ان العقل انتصر على طبقة فاسدة قضت صريعة إفراطها. * باحث في الاقتصاد والأناسة، عن «لوديبا» الفرنسية، 11-12/2009، إعداد وضاح شرارة.