ما أبعد المشهد في مصر هذه الأيام عنه في مثلها من العام الماضي. وما أشد اختلاف حال المصريين الذين فاضت فرحتهم في كل مكان فور إعلان تنحّي حسني مبارك في 11 شباط فبراير 2011 واستمرت طاغية لأيام طويلة بعده، عنها هذه الأيام حيث تختلط الكآبة العامة بالغم الجماعي. لم يعد ثمة أثر تقريباً للتفاؤل الذي عمّ البلاد والثقة التي غمرت شعباً ظن أنه لن يكون هناك أبداً أسوأ مما عاناه في العقود الأخيرة. لكن أهم ما تغير في المشهد هو أن الخوف الذي كسره المصريون في ثورة 25 كانون الثاني يناير يجد طريقه الآن مجدداً إلى قطاعات واسعة منهم، على رغم إصرار بعضهم على مطاردته عبر التشبث برمزية"ميدان التحرير"ومحاولة إبقاء جذوة هذه الثورة بصعوبة شديدة. لكن هؤلاء صاروا مطاردين عبر حملات تشارك فيها مؤسسات رسمية وإعلامية ودينية لتشويه صورتهم، بل لشيطنتهم في بعض الأحيان. والأهم أن هذه الحملات لا تستهدفهم في المقام الأول، لأن وزنهم النسبي في المعادلة السياسية الآن لا يفسر حجمها وتواترها، بل تهدف إلى خلق ذعر في المجتمع وإعادة نشر ثقافة الخوف التي بدا في مثل هذه الأيام من العام الماضي أنها انحسرت بعد ثورة نزل خلالها أكثر من عشرة ملايين إلى ميادين مصر وشوارعها. وفي الوقت الذي تباطأ القطاع الصناعي بمعدلات تعتبر سابقة، كغيره من القطاعات الاقتصادية، نشطت صناعة الخوف والترويع، وتضاعفت خطوط إنتاج الفزّاعات سعياً إلى دفع أكبر عدد ممكن من المصريين إلى قبول المقايضة مجدداً بين أمنهم وحريتهم. وصار راجحاً أن الامتناع عن إصلاح جهاز الأمن وإعادة هيكلة الشرطة لم يكن نتيجة سوء تقدير وإدارة. فقد ساهم استمرار تردي حال الأمن في أنحاء مصر لعام كامل في خلق أجواء تُيسّر نشر الخوف. وبلغ نشاط صانعي هذا الخوف ذروته في الأسابيع الأخيرة، منذ اقتربت الذكرى الأولى لانطلاقة الثورة ثم تنحّي مبارك، وذلك عبر حملات منظمة لترويع الشعب واستعدائه ضد التظاهرات والإضرابات والاعتصامات باعتبارها تعطيلاً لعجلة الإنتاج المعطلة أصلاً لإحجام المستثمرين عن العمل في ظل عدم اليقين في شأن النظام السياسي وموقع العسكريين الذين يحكمون الآن فيه، أو بوصفها تخريباً لا يخلو من تآمر أجنبي في ظل هجمة مفاجئة على منظمات مدنية أميركية وأوروبية، يعمل بعضها في مصر منذ أكثر من عشر سنين. فما إن حلت الذكرى الأولى للثورة حتى تصاعدت هذه الحملات محذرة من"إسقاط الدولة"حيناً و"إسقاط الجيش"حيناً آخر في أجواء لا تترك مساحة للتفكير في المعنى المحدد لمثل هذه"الأهوال"الموعودة، أو للتساؤل عما وراء إشاعتها على هذا النحو. وعلى رغم أنه لم يحدث أن اقتربت تظاهرة من المنشآت السيادية، خصوصاً وزارتي الداخلية والدفاع، إلا نتيجة رد فعل على اعتداء تشنّه قوات أمنية ضد معتصمين، أو مذبحة يروح ضحيتها عشرات مثلما حدث في"ملعب بورسعيد"أخيراً، سرعان ما تنشط آلة التخويف وإثارة الفزع محذرة من"مخطط"أو"مؤامرة"لاقتحام هذه المنشأة أو تلك. وفي أجواء مهيأة لمثل هذا الترويع، لا تُطرح أسئلة بديهية عن الفائدة التي تعود على متظاهرين من جراء"اقتحام"وزارة الداخلية وما الذي يدفعهم إلى ترك الشوارع الفسيحة التي يستطيعون حماية أنفسهم فيها ودخول موقع تسهل محاصرتهم فيه، أو عن كيف يمكن تظاهرة سلمية أن تقتحم موقعاً حصيناً مثل وزارة الدفاع؟! ولأن هذه الحملات تعتمد على قلق قطاعات متزايدة في المجتمع بسبب تردي الوضعين الأمني والاقتصادي، استثمر صانعوها خطأ وقع فيه بعض الشباب عندما دعوا إلى"عصيان مدني"في ذكرى تنحي مبارك في 11 شباط الجاري، من دون توافر أي مقومات موضوعية له. فقد وفروا فرصة لم يكن صانعو حملات التخويف يحلمون بمثلها، فنشطوا ل"إنقاذ"البلاد من خطر يعرفون أنه وهمي بامتياز، ولبسوا لباس الوعاظ وعبَّأوا كل طاقات الدولة لمواجهة"التخريب"، واستغلوا الفشل المحتوم لدعوة منبتة الصلة بالواقع. لكنهم بالغوا في ذلك وذهبوا فيه إلى مدى جعل المشهد كله غريباً، كأنه يحدث في بلد آخر عبر خطاب يزعم أن عجلة الإنتاج المعطلة أصلاً لم تتوقف عن الدوران، وأن المصريين تطوعوا لزيادة ساعات العمل على رغم أنهم ضمن الشعوب الأقل إنتاجية في عالم اليوم. فكان العمل الحقيقي في ذلك اليوم هو الترويع الذي تجاوز الخطاب السياسي والإعلامي والديني إلى التحرك لنشر لافتات في كثير من المواقع تندد ب"العصيان التخريبي". هكذا، بعدما تُرك المصريون في وضع بالغ الصعوبة أمنياً واقتصادياً على مدى عام، وكأنهم يُعاقبون بسبب مشاركتهم في الثورة أو تأييدهم لها، جاء وقت حصد نتائج هذا الوضع اعتقاداً بأنهم باتوا مهيئين للتخلي عن حريتهم التي انتزعوها لكنها لم تطعمهم من جوع أو تؤمّنهم من خوف. وستكون الأشهر القليلة المقبلة حاسمة، إذ سيشتد فيها الصراع بين ثقافة الحرية الجديدة ومخزون ثقافة العبودية الذي يراهن صانعو الخوف والترويع على أنه لا ينضب. فهذا مخزون لا يُستهان به على رغم فشل الرئيس السابق حسني مبارك في استدعائه عقب انفجار الثورة. فقد لجأ إليه في خطابه الذي تم بثّه في الأول من شباط 2011 متقمصاً دور الأب الذي يعتبر إحدى ركائز ثقافة العبودية. فما الأب في نظام سياسي تسلطي فاسد إلا الراعي الذي يحكم رعايا في علاقة هي نقيض تلك التي تقوم بين الرئيس والمواطنين في ظل ثقافة الحرية. كما بدأ هو في ذلك الخطاب استخدام منهج الترويع الذي استمر بعده، وبلغ ذروته هذه الأيام، وهو تخويف الناس عندما جعل الفوضى البديل الوحيد لغيابه، وقال ما معناه"أنا أو الفوضى". وإذا كان الخوف من الفوضى شعوراً إنسانياً طبيعياً، خصوصاً في حال تقترب من الفراغ الأمني، فهو يرتبط، في جانب من تراثنا باستعداد لقبول أي حكم غاشم يوفر الأمن لتجنب الفتنة. وهذا يفسر صعوبة معركة الحرية التي يبدو أنها ستطول في مصر، وستكون سجالاً في خط بياني سيبقى متأرجحاً لسنوات بعد أن تعذر حسمها بضربة ثورية واحدة.