يشوب تظاهرات المصريين اليوم الانقسام. فعلى خلاف تظاهراتهم في كانون الثاني يناير وشباط فبراير المنصرمين حين شاركوا على اختلاف مشاربهم ومعتقداتهم الدينية والسياسية في اطاحة الديكتاتور، انقسمت أخيراً صفوفهم، وغلبت كفة المصالح الضيقة على المصالح الجامعة والعامة. ويحاصر المتظاهرون مقر المحكمة الدستورية العليا ويطوقونها لإغلاقها وليس لحماية هذه المؤسسة العالية المكانة. والقضاة أعلنوا اضراباً مفتوحاً. سيل التظاهرات والتظاهرات المضادة لم ينقطع. وغالباً ما تنعقد ثمار المناقشات"الحامية"في المراحل الانتقالية السياسية، لكنها انتهت في مصر الى الاضطرابات. ويرى كثر أن قرارات المجلس الاول للقوات المسلحة مطلع 2011 هي وراء محنة المصريين اليوم. فالمجلس حدد أطر المرحلة الانتقالية وصاغ مبادئها. وبعض آخر يقول إن مرد الازمة الى حل المجلس العسكري البرلمان في حزيران يونيو 2012 نزولاً على توصية المحكمة العليا ووقف العمل بالدستور. ففي غياب الاطر القانونية والقواعد الناظمة وقعت البلاد أولاً فريسة جنرالات يفتقرون الى الكفاءة، ثم فريسة اسلاميين متسلطين ومستبدين. وينظر المصريون الليبراليون والعلمانيون بعين الريبة الى الرئيس محمد مرسي، القائد في"الإخوان المسلمين". وأجج مخاوفهم مشروع الدستور الذي يلتزم تفسيراً متشدداً للشريعة الاسلامية وتظاهرة"نصرة الشريعة"التي نظمها"الاخوان". ولا شك في ان هذه التفسيرات لا تجافي الصواب. وكان إرساء نظام سياسي جديد لَيَتسنّى بيُسر لو لم يحلّ الضباط مجلس الشعب ولو كان مشروع الدستور غير اقصائي. لكن جذور أزمة السياسة المصرية ضاربة القدم. وليست مبادرة مرسي في الشهر الأخير الى تحصين نفسه من مساءلة القضاء، وإعادة محاكمة حسني مبارك والإسراع في صوغ مشروع الدستور"الاخواني"- واستخفافه وحزبه بآراء الملايين - سوى حلقة من حلقات مسلسل سبق أن اختبره المصريون. فالإخوان شأن"الضباط الاحرار"الذين بلغوا السلطة في 1952 و"أنتجوا"جمال عبد الناصر، وانور السادات ومبارك، هم من الطبقة التي يسميها الباحث في الاناسة جايمس سكوت طبقة"الحداثويين". وهؤلاء يرفعون شأن المعرفة العلمية والنخب الماهرة، وهم تسلطيون ومستبدون. وكثر يحسبون أن"الاخوان المسلمين"حركة دينية فحسب، لكنها حركة تتوسل الدين لبلوغ مآربها السياسية. ومعظم كوادر الحركة هم من الأطباء والمهندسين والمحامين والصيادلة الذين يرون أنهم مؤهلون ل"اعادة بناء"مصر. ويمسك"الاخوان المسلمون"بمقاليد مجلس الشورى المنحل ومجلس الشعب والتأسيسية، والرئاسة، ويحسبون أن في وسعهم تحديد مصير مصر في مجالس الحركة. فلا يتوسلون التفاوض ولا يلتزمون الاجماع في قراراتهم. وخير دليل على نازعهم الاستبدادي الذي يتنصل من الشورى، مبادرة مرسي في آب اغسطس الى اقالة مدير جهاز الامن الداخلي وسعيه الى تعيين مقربين منه في مناصب رفيعة في وسائل الاعلام الرسمية. وفي مقابلة تلفزيونية أُذيعت في 29 تشرين الثاني نوفمبر، أعلن مرسي أن قراراته"تلبي مطالب الشعب والثورة". والأفدح في أخطاء مرسي هو حسبانه ان المصريين كلهم يفهمون نتيجة الانتخابات فهماً"إخوانياً": تفويضه وحزبه الحكم المطلق المنفلت من قيد الاجماع والذي لا يقيم وزناً للمعارضين. ويسير"الإخوان"على خطى مبارك حين يصفون عشرات الآلاف من معارضيهم بالفلول والبلطجية. والمعارضة محقة في التنديد بنهج مرسي"المباركي"نسبة الى حسني مبارك. فالرئيس وسلفه يرفعان لواء الحداثوية التي لم تثمر اصلاحات سياسية في عهد النظام المباركي والتي لا تبشر بمستقبل واعد للديموقراطية في مصر. * خبير في شؤون الشرق الاوسط، عن موقع"فورين أفيرز"الاميركي، 2/12/2012، اعداد منال نحاس