كان الفيلسوف الأميركي جون ديوي واحداً من أبرز المفكرين العمليين في القرن العشرين. وهو لئن انتمى إلى الفكر البراغماتي بعدما كانت بداياته هيغلية، فإنه اختطّ لنفسه، ضمن إطار"البراغماتية"، طريقاً أبعدته بعض الشيء عن طريق عملاقي البراغماتية الآخرين بيرس وجيمس. وهذه الطريق الخاصة بديوي هي التي جعلت مفكرنا العربي المصري الراحل زكي نجيب محمود، يرى أن فلسفة ديوي يمكن أن يطلق عليها اسم ذرائعية، وذلك انطلاقاً من بُعدها الوظيفي الاجتماعي الواضح. ويرى المفكر المصري أنه بما أن"ليس من شك في أن أول حجر يوضع في بناء الديموقراطية هو التربية، التي تؤدي إلى ذلك البناء"، كان من الطبيعي للتربية"أن تكون أحد الميادين الأساسية التي خلق فيها ديوي وابتكر"هو الذي كان من أوائل كتبه وأهمها"المدرسة والمجتمع". غير أن ديوي كان يرى في الوقت نفسه أن لا تربية من دون التقاط المرء، طوال حياته، تلك الخبرة الجمالية التي تشكل وعيه وتعطي تربيته، وبشكل متواصل، زخمها. وهو من هنا كان يرى في الفن وسيلة تربوية عملية شديدة الأهمية. وهو لئن عبّر عن هذا في معظم كتبه ومحاضراته ودراساته، فإنه كرّس لخبرة الفن واحداً من أهم كتبه، وهو الكتاب المعنون بالتحديد"الفن كخبرة"، والذي صدر في العام 1933 في نيويورك. والكتاب مؤلف أصلاً من عشر محاضرات ألقاها جون ديوي تباعاً في العام 1931، لتشكل فتحاً جديداً في عالم النظرة إلى الفن، وتحديداً في عالم رسم العلاقة الحقيقية بين الفن والإنسان، من ناحية أن الفن بالنسبة إلى ديوي لا يمكن فصله عن الحياة الاجتماعية اليومية ولا عن التربية، حتى وإن كان الجانب الإبداعي منه نخبوياً صرفاً. في كتابه هذا، والذي ترجم إلى عدد كبير من اللغات، يبدو واضحاً أنه إذا كان ديوي يهتم بالمسائل التربوية كتأسيس لعلاقة المواطن بالديموقراطية، فإن التربية بالنسبة إليه، لا يمكن النظر إليها إلا انطلاقا من معايير اجتماعية تربط المواطن مباشرة بعلم الاجتماع، ومن ثم علم الجمال بالمواطن وبعلم الاجتماع. بالنسبة إلى ديوي، ليس ثمة مجال في عصرنا -ولم يكن ثمة مجال في العصور السابقة أيضاً- لوجود تصوّر للجميل بوصفه تجلياً معزولاً تماماً عن بقية المفاهيم الإنسانية. كذلك يرى ديوي أنه لم يعد ثمة مجال للتوكيد على أن الجميل إنما هو نتاج نشاط خاص يقوم به أفراد ممّيزون. وهذا يعني امحاء الفكرة القائلة إن التأثر الجمالي لا يمكنه أن يولد إلا من رحم تأمل الأشياء الفنية الخالصة، بمعنى أنه يجب الفصل بين الظاهرة الجمالية وبقية الظواهر المتعلقة بحياة الإنسان... وهو موقف كان ديوي يرى أن نتيجته الحتمية تفترض عزل النتاجات الفنية في المتاحف وغيرها من الاماكن المخصصة، على اعتبار ان لا علاقة لها بحياتنا اليومية وببقية الاشياء التي تحيط بنا... كل هذا، بالنسبة الى ديوي، أمر لم يعد منطقياً، لذلك نراه على مدى صفحات"الفن كخبرة"يكافح ضد هذه الافكار. لكن موقف جون ديوي ليس فقط موقفاً سلبياً يهمه التشديد على خطل فكرة الفصل بين الحياة اليومية والنتاجات الجمالية الفنية، بل هو موقف بنّاء ايضاً... وهو في بعده البنّاء هذا يرتبط مباشرة بقضية التربية، وليس بوصف التربية موجّهة الى طلاب المدارس والجامعات فقط، بل بوصفها نشاطاً تثقيفياً موجّهاً إلى كل الناس والى كل الأعمار، إلى المجتمع ككل في رسم وعي يومي هو واحد من الطرق الرئيسة التي تحقق الديموقراطية الحقيقية. ومن هنا بالتحديد يدرس هذا المفكر القيم الجمالية بوصفها"تعبيراً عن تجربة خبرة مشتركة"لا بوصفها"ظاهرة على حدة". وديوي انطلاقاً من هنا يفسر ويحلل المشاعر التي لا يكف فؤاد البشر عن استشعارها تجاه الخبرات المشتركة، ما يوصله الى الاستنتاج بأن مشاعر مثل الفرح والخوف ليست بأي حال أحاسيس ثابتة ومؤقتة، بل هي"تضافر لخبرات داخلية يثيرها حدث ما، يجري خارج ذواتنا...". وفي هذا الإطار يتابع ديوي محللاً، أن كل"خبرة"إنما هي"نتيجة لعبة متبادلة بين القوى التي تتحرك بن حدث خارجي وإبداع داخلي... وهذه اللعبة ليست بأي حال لعبة سببية ولا هي حتى فوضوية: بل هي لعبة تتبع إيقاعاً معيناً، وسيرورة واضحة... لعبة لها بداية ولها نهاية. وحين تتطور هذه السيرورة في شكل متناسق، ترتدي بفضل هذا التطور قيمة جمالية، مستقلة عن كل جهد يبذل لخلق عمل فني... أما العمل الفني نفسه فإنه يولد من رحم تلك الحاجة الى التعبير عن تلك الخبرة التي كان سبق لها اصلا ان ارتدت طابعا جماليا. ففي البداية تكون لتلك الخبرة قيمة جوّانية غير واضحة التعبير. اما الأشياء البرّانية والمشاعر الراهنة او السابقة، فإنها عند ذاك تفعل بوصفها ادوات تعبير". وهنا ينبهنا ديوي الى ان التعبير، في حد ذاته، لا يكون ذا جوهر فني او جمالي... ذلك ان كل شعور ينحو اصلاً لأن يعبر عن ذاته، بتصرف ما، بصرخة، بكلمة عابرة. أما التعبير الجمالي، فإنه -على عكس هذا- يولد في رأيه من خلال عملية نقل واضحة: فالشعور، خلال سيرورة تطوره، يجتذب إليه حالات وجدانية أخرى، ومشاعر مشابهة، في شكل ينتج نظاماً معيناً، ووحدة اكثر سمواً من تلك الناتجة من التعبير الشعوري الأولي. وهذه الوحدة التعبيرية ذات الأشكال المتعدّدة، هي التي تنتج شعوراً ذا طابع مختلف: وهنا نجدنا في ازاء الشعور الجمالي، الذي لا يكون -على أي حال- غريباً عن التطور الطبيعي للخبرة الشعورية، لكنه يتميز عنها بكونه شعوراً منظماً ومتناسقاً. وكنتيجة لهذا كله، وبالنظر إلى ما نعرفه عن الاهتمامات الاجتماعية لجون ديوي، يصبح العمل الفني، بصفته عملاً تعبيرياً، عملاً يتعين إيصاله إلى الآخرين، لكي تكون له، ليس قيمته الاجتماعية والتربوية فقط، بل حتميته الجمالية ايضاً. ومن هنا، فإن ما يراه ديوي صائباً هو أن"الفن إنما ينحو جوهرياً إلى أن يضع الناس في علاقة بعضهم مع بعض، مشكلاً في ما بينهم رابطة خبرات مباشرة مشتركة. وهذا ما يظهر الفن بصفته الوسيلة الوحيدة التي تمكن الناس من الإفلات من عزلة فرديتهم". وينبهنا ديوي هنا، في السياق نفسه، الى ان"التضافر بين الشكل والمضمون، في العمل الفني، لا يكون سوى التعبير الحقيقي عن الاتحاد الحميم بين السلبية والإيجابية الفعالة التي تستتبعها كل خبرة ملموسة"على اعتبار ان عدم التفاعل ازاء شعور معين، عبر مشاعر وافعال اخرى، انما هو نتاج سلبية ليست في أي حال من شيم الانسان"، اما"فن إضفاء شكل معين على هذا الشعور فإنه يشكل أسمى درجات التعبير عن التفاعل الايجابي الذي يبديه الانسان...". بقي ان نذكر هنا أن جون ديوي يقف بقوة ضد كثر من علماء الجمال الذين فرّقوا دائماً بين"الفنون الجميلة"و"الفنون التطبيقية"، مبيناً أن تاريخ الحضارات البشرية، يأتي شاهداً على أن أي مجتمع من المجتمعات لم يفصل يوماً الفن عن الصناعة، أو الخبرة الجمالية عن الخبرة العملية، ما ينكر على النزعة المتطرفة المنادية بأن"الفن للفن"أي صدقية. وإذا كان"الأفراد هم الذين يخلقون التجربة الجمالية ويتمتعون بتذوّقها، فمن المؤكد أن الحضارة التي ينتسبون إليها هي التي تساهم في تشكيل الجزء الأكبر من مضمون تجربتهم". ولد جون ديوي العام 1859، ورحل في العام 1951. أما تكوّنه الفلسفي الحقيقي فكان بين 1894 و1904، حين أدت به سلسلة من التجارب الميدانية العملية في مجال التربية إلى التخلي عن هيغليته والانتماء إلى فكر براغماتي صار ذرائعياً بالنسبة إليه. وقد اهتم ديوي طوال حياته بالتربية والديموقراطية، ناهيك باهتمامه بالخبرة الجمالية، غير مفرّق بين هذه الاهتمامات الثلاثة. ومن أبرز كتبه، الى ما ذكرنا،"البحث عن يقين"و"الخبرة والطبيعة"و"إعادة البناء في الفلسفة"و"كيف نفكر". [email protected]