هي حكاية عجيبة، ولكنها ليست من بنات الخيال. ففي عام 2000، اشترت رئاسة الأركان عدداً من مواقع الأخبار الإلكترونية من أموال الضرائب المجباة من الشعب التركي. وحولت هذه المواقع الإلكترونية منابر معادية للحكومة تنشر الأكاذيب، وتشن حملات تضليل، وتشوه سمعة الحكومة التي من المفترض أنها تتبع لها. واستمرت هذه الحملة الإعلامية أعواماً طويلة. فبادر المدعي العام في المحكمة الدستورية إلى رفع دعوى لحظر الحزب الحاكم مستنداً إلى الأخبار الكاذبة المنشورة في تلك المواقع دليلاً رسمياً لا يرقى إليه الشك. وحكمت المحكمة بصحة الأدلة، ودانت"حزب العدالة والتنمية"الحاكم بمعاداة العلمانية، لكنها لم تحظر الحزب في 2007. وبعد عامين، أميط اللثام عن هذه الفضيحة، وانكشف أمر تلك المواقع وعلاقتها بقيادة الأركان. وإثر تحقيق المحكمة الجنائية، لم ينكر الجيش علاقته بالأمر، وزعم أنه أقدم على هذه الأفعال تنفيذاً لأوامر الحكومة. وتعذر إثبات زعم الجيش، وتبين أنه تذرع بقرار أصدرته حكومة بولنت أجويت في 1999. ولكنه فسر القرار على هواه، ولم يخجل من فبركة أخبار كاذبة والعمل ضد حكومته لتشويه سمعتها. وبعدما دارت عجلة التحقيق وانكشف الأمر وثبت أن الجنرالات السابقين خالفوا القانون، لم يبادر الجيش إلى فتح تحقيق لمعرفة من تجاوز حدوده وخرج عن القانون في صفوفه. وسعى الجنرالات في قيادة الأركان إلى إلقاء اللائمة على صغار الضباط الذين أداروا تلك المواقع الإخبارية، وإلى ترقية بعض القيادات التي أشرفت على تلك المشاريع. واليوم، صدرت أوامر باعتقال عدد من الضباط والجنرالات المسؤولين عن هذه الجريمة، على رغم أنهم ترقوا في الأثناء، وتبوأوا مناصب أعلى في الجيش. ولم تتعاون قيادة الأركان مع التحقيقات. وسعى قائد الأركان في إنقاذ المتهمين، وقدم عدد من قيادات الجيش استقالة جماعية للضغط على الحكومة التي تصر على عدم ترقية المتهمين وسوقهم إلى العدالة. وتوقعنا أن تجري قيادة الأركان تحقيقاً داخلياً جدياً وأن تقدم اعتذاراً للشعب التركي وحكومته على هذه الجريمة. لكن فلسفة الجيش وقياداته ترفض المساءلة والمحاسبة. وإثر استقالة هذه القيادات دفعة واحدة، رأيت الحزن في عيون كثيرين من الأتاتوركيين والعلمانيين في تركيا. فهم يحسبون أن الجيش حارس الديموقراطية والعلمانية في البلد. والحق أن النقاشات حول الدور الحقيقي للجيش في تركيا، ملتبسة. فكل طرف يرسم له دوراً وفق تصوره الخاص. وثمة من يرى أن الجيش هو رادع احتكار شخص ما السلطة وهيمنة أيديولوجيا عليها السلطة. والدور هذا مرده إلى ضعف الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضاء في تركيا. والتداخل بين السلطات يقوّض الديموقراطية التركية. وليس في محله تعليق الآمال على الجيش وإناطة مهمة إرساء الديموقراطية وضمان الفصل بين السلطات به. ويفترض أن يتبع الجيش السلطة التنفيذية، أي الحكومة، وأن يقدم لها"كشف حساب"عن إجراءاته. ولا يسعنا أن نقبل به نداً للسلطات الثلاث أو للحكومة مهما بلغت مخاوفنا على الديموقراطية. وليس الجيش القلعة الأخيرة في النظام العلماني الجمهوري، على ما يزعم. والتوصل إلى آلية لكبح جماح أي حكومة تحتكر السلطة لسنوات أمر مهم وملح. والمهمة هذه هي من مهمات الشعب والمعارضة المدنية والسياسية. والحكومة ملزمة أيضاً أن تقدم للشعب"كشف حساب"عن أعمالها. وحري بها ألا تنفرد بالقرار والسلطة. ويجب ألا ننسى أن ديموقراطية النظام قوامها التزامه معايير الشفافية في الأعمال، وقبول أن يقوّمه الشعب ويحاسبه. والمؤسسة العسكرية لا شأن لها بالمحاسبة والتقويم. * معلق، عن"حرييات"التركية، 31/7/2011، إعداد يوسف الشريف