لا يكاد يخلو معرض للفنان التشكيلي المصري جميل شفيق من حضور قوي للمرأة. يرسمها مكتنزة الأطراف، قوية البنية، لكنها في الوقت نفسه تتمتع برشاقة وخفة راقصي الباليه. وعلى رغم وجودها منفردة أحياناً داخل إطار العمل، مع قلة العناصر المصاحبة لها، إلا أنك لا تمل من النظر إليها، متأملاً تلك المساحات والعلاقات والنسب المرهفة لتلك الأنثى ذات العيون اللوزية الواسعة. كائن أنثوي مكتمل المعالم، ومستودع للمعاني والدلالات. وهو يرسم الخيول أيضاً بالمنطق نفسه. كائنات أسطورية، شفافة وحالمة، تتراقص بين عناصر الطبيعة الأخرى في سلام ووداعة، وتحمل الكثير من المعاني والدلالات والرموز. وإلى جانب هذين العنصرين، ثمة عناصر أخرى كثيرة تسبح في فضاء لا نهائي من الأبيض والأسود. هو فضاء شاسع، يبدو فيه الكون على فطرته الأولى. فلا تجد في مساحة العمل أياً من عناصر ومفردات العصر. هو عالم جميل شفيق الذي لم يلوث بعد بأمراض المدنية. عالم أسطوري تملأه السكينة، وتخيم فيه الطمأنينة على الجميع. جميل شفيق، هو واحد من أبرز فناني مصر المعاصرين وأكثرهم إخلاصاً لفن الرسم بالأبيض والأسود. تخرج في كلية الفنون الجميلة عام 1962 وظل لسنوات لا يعرض أعماله إلا على صفحات الجرائد والمجلات، عن قناعة بأنها الوسيلة الأنسب للوصول إلى الناس، حتى أقنعه أصدقاؤه بضرورة أن يفرد معرضاً خاصاً لأعماله. وبالفعل أقام معرضه الأول في أتيليه القاهرة عام 1989. يقول شفيق معلقاً:"في الستينات كان المد القومي والوطني طاغياً، والتوجه نحو الجماهير العريضة هو شاغل الكثيرين، ومنهم حسين بيكار، الذي كان ينشر أعماله على صفحات جريدة"أخبار اليوم"، وكان مؤمناً بأن الرسم على صفحات الجرائد أجدى من عرضها في قاعة صغيرة لا يدخلها سوى الأصدقاء والمعارف. بدوري كنت أنشر لوحاتي على صفحات جريدة"التعاون"، وهي جريدة كانت موجهة للفلاحين. ومثَّل عملي بها فرصة للتعرف على مصر من أقصاها إلى أقصاها. كنا نقوم بزيارات مستمرة للكثير من مناطق مصر النائية. وشكلت تلك الزيارات مخزوناً بصرياً هائلاً ما زلت أنهل منه حتى اليوم". تمتد علاقة شفيق بالوسط الثقافي المصري إلى فترة الدراسة، ومثَّل مسكنه الذي استقر به حين أتى إلى القاهرة من مدينة طنطا في دلتا مصر ملتقى أدبياً وثقافياً. وفي السبعينات وجد جميل شفيق طريقه بين أعضاء شلة"الحرافيش"وعميدها نجيب محفوظ. يقول: بدأت علاقتي بنجيب محفوظ من خلال رسام الكاريكاتير بهجت عثمان، فهو الذي دعاني إلى شلة الحرافيش وهي شلة من الأصدقاء تطورت جلساتها لتصبح أشبه بالندوة الثقافية الموسعة، وحين انضممت إليهم كنا نجتمع في بيت الكاتب محمد عفيفي وكان معنا عادل كامل، وأحمد مظهر وبهجت عثمان وغيرهم. لماذا يستحوذ الرسم بالأبيض والأسود على النصيب الأكبر من تجربتك الفنية، رغم تخرجك في قسم التصوير؟ - كان لي بعض المحاولات في اللون، لكنني سرعان ما كنت أعود مرة أخرى إلى الأبيض والأسود، فأنا أعشق الرسم بهما رغم صعوبة التعامل مع الأحبار، فهي خامة تتطلب الكثير من الصبر والتركيز. فحين تضع أول خط على مساحة الرسم لا تستطيع تغييره أبداً. عكس التعامل مع خامات اللون تماماً، والتي تعطيك المجال للتراجع. هذا الأمر يتطلب من الرسام المزيد من التركيز والصبر والوقت أيضاً، بخاصة في ما يتعلق بالرسم بأقلام الحبر التي أنجزت بها معظم أعمالي، والتي توقفت الآن عن العمل بها، ولجأت إلى الرسم بالفرشاة بدلاً منها، إذ لم تعد لديَّ القدرة على الجلوس أمام مساحة الرسم لساعات وأيام من أجل إنجاز لوحة واحدة. ألا ترى اليوم أن هناك تقلصاً في عدد معارض الرسم بالأبيض والأسود، وأن من يمارسون هذا النوع من الفن بجدية هم في تناقص مستمر؟ - فن الرسم هو ترمومتر يمكنك أن تقيس به مدى تقدم أو تراجع التشكيل في أي فترة من الفترات، وقد تراجع الاهتمام به لأن كل شيء في حياتنا قد تراجع بما في ذلك مستوى التعليم والإبداع. ولم تعد الدراسة في كليات الفنون كما كانت في السابق، بدأ هذا التراجع حين تغيرت معايير القبول في هذه الكليات، فأصبحت تعتمد على مجموع درجات الطالب في المرحلة الثانوية، بدلاً من اعتمادها على الموهبة والاستعداد الحقيقي للإبداع. في زماننا كانت اختبارات القبول في هذه الكليات تمتد لأيام، تتحدد بعدها إمكانية قبول الطالب من عدمه، أما اليوم فلا توجد اختبارات حقيقية أو ذات جدوى. وكان طلبة الفنون في فترة الخمسينات والستينات يتدربون على رسم الجسد الإنساني من خلال الموديل العاري، الذي لا بديل عنه في أي كلية أو معهد من معاهد الفنون في مختلف أنحاء العالم، أما اليوم، فقد تم منع الاستعانة بالموديل العاري عندنا، وهي كلها أمور تساهم بالطبع في تدهور مستوى الطالب بطريقة جعلت المبدع الحقيقي تائهاً وسط هذا الزخم من الزيف وهبوط المستوى. نشأت في أجواء"ثورة يوليو"، حين كان هناك اهتمام بالتعليم في مختلف مراحله، والنشاط المدرسي كان له دور واضح. كنت في مدرسة واحدة أنا وحجازي والوشاحي وفؤاد تاج الدين، وهم جميعاً فنانون على قدر عال من القيمة. في هذه المدرسة رسمت أنا وحجازي زعماء الحركة الوطنية من عرابي إلى سعد زغلول ومصطفى كامل ومحمد فريد وغيرهم، وكانت إدارة المدرسة تشجعنا على ذلك، وتعلق أعمالنا على جدران الفصول. هذا الأمر لم يعد موجوداً اليوم. تراجع الاهتمام بهذه النشاطات، فتراجع بالتالي الاهتمام بالفن والإحساس بقيمته، بل تراجعت مناحي الحياة الأخرى. فالفن ينظم مشاعر البشر، ويرتقي بأحاسيسهم، ويفجر إبداعاتهم أيضاً. المرأة والخيول من أبرز العناصر التي تتكرر في أعمالك، فلماذا هذا الحضور الطاغي لهذين العنصرين؟ -"الحب كالفن كلاهما لا يفسر". هي مقولة لطاغور أؤمن بها، لذا لا أحب عادة إعطاء تفسيرات لأعمالي أو إحالتها إلى دلالات ورموز مباشرة، لكن هذين العنصرين بالذات قريبان إلى قلبي، فهما يحملان كثيراً من المعاني العميقة والإشارات الموحية. فالمرأة هي نصفي الآخر الذي يلازمني كإنسان، هي الأم والزوجة والابنة والصديقة، وهي إلى جانب ذلك تحمل ما تحمل من مقومات الجمال، ما يؤهلها لأن تكون عنصراً ثابتاً من عناصر الرسم والتشكيل عند الفنانين في مختلف العصور والأزمنة، وهي قريبة الشبه بالخيول في نواح كثيرة، فهي تحمل معاني القوة والدفء والجمال في آن معاً. أما الخيول فهي تمثل لديَّ موروثاً مصرياً طالما أثار انتباهي منذ أيام طفولتي في مدينة طنطا المعروفة بكثرة الموالد التي تقام فيها للأولياء عند المسلمين والقديسين عند الأقباط. وجميع هذه الموالد كانت مرتبطة عندي ولا تزال في الذاكرة بوجود الخيول ومهرجانات الرقص التي كانت تقام لها، وهناك عائلات مشهورة بتربية الخيول في هذه المدينة حتى اليوم، بخاصة الخيول العربية ذات الشكل الأسطوري المتفرد بين الخيول الأخرى. لم تفارقني يوماً صورة الخيل وهي تتراقص بين الحشود في مولد السيدة دميانة في طنطا، ولا موكب الخيول الأسطوري في مولد السيد البدوي. أنا أرسم الخيول بحب وعشق شديد لأني بالفعل أعشقها وأحبها. في هذه الأيام تحضرني صورة الحصان بقوة، وحين أعيد قراءة لوحاتي، أتذكر ذلك الحصان الطائر الذي كان يتصدر إحدى لوحاتي الكبيرة بينما تحتشد من أسفله العشرات من الوجوه الحجرية. أنا أنظر اليوم إلى هذه اللوحة بشكل مختلف. لقد شعرت حين نظرت إليها مرة أخرى أن ذلك الحصان الطائر هو الشعب، وربما كان هذا المعنى في داخلي حين كنت أرسم هذه الأحصنة. كنت أرسم الحلم من دون أن أدري أني سأراه وأعايشه في يوم من الأيام. الحصان في اللوحات كان يمثل حلم التخلص من القيد، وها هو الحلم يتحقق أمام عيني. أقيم في الآونة الأخيرة عدد من المعارض الفنية ضمت أعمالاً من وحي الثورة المصرية، فلماذا لم تشارك في أحدها؟ - الثورة لا تُرسم الآن. فهي لوحة لم تكتمل بعد، هي تصنع كل يوم في الميادين المصرية، وهو أمر لم نكن نتوقعه أو نحسب له حساباً، ولا يستطيع أي فنان اليوم أن يعبر عن الثورة، ولكن يمكنك أن تري الإبداع الحقيقي هناك في قلب الميادين. "طرح البحر"، تجربة في النحت على الخشب خاضها الفنان جميل شفيق وعرضها قبل سنوات عدة، وما زالت هذه التجربة مستمرة معه حتى اليوم، يلجأ إليها بين الحين والآخر. أوحت إليه بها تلك الأخشاب التي يعثر عليها على شاطئ البحر ملقاة أمام مرسمه في الإسكندرية، حيث يهرب من زحام القاهرة من وقت إلى آخر. فيجمع هذه الأخشاب ويعيد صياغتها من جديد، ويحولها إلى مجسمات وأعمال فنية ذات قيمة. يقول: منذ سنوات وأنا أهرب من القاهرة وزحامها الخانق إلى شاطئ الإسكندرية، حيث أقيم هناك بشكل دائم تقريباً، وعند جلوسي على البحر كثيراً ما أعثر على هذه الأخشاب التي تلقيها الأمواج على الشاطئ، فكنت أجمع هذه الأخشاب وأقوم بمعالجتها من جديد والتعامل معها كقطعة فنية أرسم عليها أو أقوم بالتوليف بين عناصر عدة من بينها لتشكيل عمل واحد. وهي تجربة شيقة وملهمة، وأجد بها نوعاً من المتعة التي لا تضاهى. وقد عرضت نماذج من هذه الأعمال في معارض سابقة ولاقت قبولاً وترحيباً لدى الناس. وإلى اليوم ما زالت التجربة مستمرة، وما زلت أمارس تلك المتعة كلما ذهبت إلى الإسكندرية. أكثر ما يشغل بال الفنان جميل شفيق، هو ذلك التواصل المفقود بين الأجيال، ذلك التواصل الذي شعر ذات يوم بقيمته أكثر من أي فنان آخر. هكذا قال لي، قبل أن يخرج من بين أوراقه ذلك الخطاب الذي وصله ذات يوم من أحد الطلبة في كلية الفنون الجميلة، يعرض فيه رؤيته الخاصة لأعماله ويطلب النصيحة من هذا الفنان الذي أعجب به. يقول جميل شفيق: حينها أخذتني مشاغل الحياة، ولم أرد على الخطاب، وحين عثرت عليه بالمصادفة ذات يوم بين أوراقي، كان قد مر عليه ثلاث سنوات تقريباً. حينها أحسست بالتقصير في حق هذا الشاب الذي كان معجباً بأعمالي ولا يطلب سوى النصيحة، وأصررت على الوصول إليه كنوع من الاعتذار له، ولكن ما آلمني أني حين وجدت أخيراً من يعرفه، كان قد مات على أثر إصابته بالسرطان. حينها بكيت، وظلت هذه الحادثة لا تفارق ذهني إلى اليوم.