في حين لا تزال الأحداث التي وُصفت بالثورة الشعبية في شمال أفريقيا والشرق الأوسط تظهر وتنتشر، ثمة جدل ساخن يدور في وسائل الإعلام الغربية بالتزامن مع السؤال الأبرز حول ما قد يحدث بعد. وقد ساهم في زيادة القلق واقع العديد من القادة في العواصم الغربية، الذين رُصدوا غير مدركين لهذه الاضطرابات وهي في مهدها. والآن، أصبح من الواضح أن الافتراضات حول عالم الاستعمار في القرن الماضي لم تعد قائمة. في الواقع، ساعدت القيادة في أوروبا والولاياتالمتحدة، التي سُرّت برؤية وضع راهن مناسب لها، على تثبيت الأنظمة الديكتاتورية في هذه المنطقة الجغرافية السياسية المهمة في العالم. بالنسبة إلى البعض في الغرب، أصبحت المسألة ما إذا كانت الديموقراطية التي يشجعون عليها في مجتمعاتهم تتناسب والثقافة الإسلامية. أمّا بالنسبة إلى الآخرين، فكان من الأسهل التعامل مع الأنظمة الاستبدادية على الصعيدين السياسي والعسكري. منذ فترة وجيزة فقط، قرر الرئيس الأميركي باراك أوباما، في خطاب حال الاتحاد الذي ألقاه أمام الكونغرس المنقسم ايديولوجياً، التعامل مع الوضع بهدوء وروية. ولمّح إلى جمهوره أن بلاداً في العالم بدأت تسابق الولاياتالمتحدة اقتصاديا وتكنولوجياً. ووجّه نداء الى الأمة بأن لا يمكن للولايات المتحدة المحافظة على دورها الريادي في العالم من دون تغييرات أساسية في العادات التي أصبحت راكدة. وأعطى مثالاً السيارات الكهربائية التي توفر استخدام الطاقة والقطارات السريعة الفعّالة في آسيا وفي البلدان التي تستثمر في البنية التحتية خاصتها، كإستراتيجية للسير نحو المستقبل. إلاّ أن أوباما لم يتطرق إلى العاصفة المشتركة التي تلوح في أفق شمال أفريقيا، كما أنه لم ينتقد سياسة خارجية أميركية تواجه عدداً من حالات الفشل في الشرق الأوسط حيث لا تزال في حالة حرب، وهي سياسة لم تطعن فيها أي غالبية في الكونغرس على أي حال. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو ما إذا كانت الشوائب الحالية في السياسة الخارجية الأميركية تُعزى إلى خللٍ في عملية صنع القرار، أم أن السبب يعود بكل بساطة إلى التدهور المستمر في مستوى العاملين في الميدان بحسب التقارير المرفوعة إلى واشنطن. أصبحت وزارة الخارجية الأميركية، إضافة إلى شبكة موظفي الخدمة المدنية المخلصين، ضعيفة عندما أمست سفاراتها قلاعاً تحت الحصار في بيئة معادية. فلم يعد ممكناً للموظفين التنقل بحريّة بين السكان المحليين الذين هم بحاجة إلى التفاعل معهم. وقد وجد الشباب الأميركي المؤهل منفعةً أكبر في العمل في الشركات المتعددة الجنسيات التي تدفع مرتبات أكبر وتعطي مزايا أخرى، بدلاً من خدمة وطنهم كديبلوماسيين. يُلاحظ هذا الاستنزاف في عدد الممثلين الأميركيين الكفوئين بشكل عام في الدول الإسلامية وعدد من الدول النامية. علاوةً على ذلك، قلّص البيت الأبيض، الذي أصبح يعتمد على الجيش وعلى أجهزة الاستخبارات المختلفة في"الحرب على الإرهاب"، دور وزارة الخارجية. ولم ينجح أيضاً القرار الذي اتخذته السياسة الخارجية الأميركية خلال اجتماع مجلس الأمن في للأمم المتحدة في محاولة لاسترضاء المكاسب السياسية المحلية. وبطريقة غريبة، شكّلت إفصاحات ما يسمّى بموقع"ويكيليكس"، على الرغم من فظاعتها والضرر الذي قد يتأتى عنها، صرخة صحوة فعّالة لكل المعنيين بها. وبصرف النظر عن دفاع وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون الشجاع عن أداء موظفيها، يجب أن تؤخذ فضائح"ويكيليكس"كدافع الى تحسين نوعية الموظفين في وزارة الخارجية. ومن المهم أن نتذكر الديبلوماسية البريطانية في الشرق الأوسط، في العقد الأول من القرن التاسع عشر، وعندما كانت انكلترا في أوج الإمبراطورية، حين تمكنت من تعطيل الجهود التي بذلتها القوى الأخرى المنافسة، فرنساوروسيا، للحصول على امتيازات في إيران. إذا كان من المقرر أن يفسر غزو نابليون لمصر عام 1798، على أنه تهديد محتمل لمصالح بريطانيا في الهند، فكان من الضروري للبريطانيين إقامة علاقات ودّية مع بلاد فارس، كونها نقطة انطلاق إلى الطريق المؤدية إلى شبه القارة الهندية. وجنّدت بريطانيا جون مالكولم وهارفورد جونز وغور أوسيلي الذين كانوا متشبعين بثقافة الشرق ولغاته. وكان البعض منهم يعمل في شركة الهندالشرقية مع مساعديهم، فتواصلوا مباشرةً مع الشاه، وأقنعوه بأن يكف عن مهاجمة المحافظات الجنوبية في روسيا التي كانت تحتاج إلى التركيز على الدفاع عن نفسها ضد هجوم نابليون من الغرب. وكانوا قادرين في الوقت عينه، أن يلتفوا للتحايل على الولوج الفرنسي في البلاط الفارسي. وأكثر ما يثير الدهشة حول التجربة الناجحة لهؤلاء الديبلوماسيين أنهم حافظوا على التزامهم مدى الحياة بالدراسات الشرقية والتي امتدت حتى سنوات تقاعدهم في انكلترا ولم تقتصر مهمتهم لمدة ثلاث أو أربع سنوات في بلد أجنبي استعداداً لمهنة سفير. * مدير في مصرف استثماري، عمل في المجلس الاستشاري للأعمال في معهد"بروكينغز"وفي مركز الدراسات الاستراتيجيّة والدوليّة، وشارك في طاولة واشنطن المستديرة الاقتصاديّة الفصليّة.