تشكلت الحكومة في العراق متأخرة وعصية ومتضخمة بالمناصب والأسماء والحصص، لكن الدولة ما زالت تنتظر منذ نحو ثماني سنوات أن يعاد تعريفها وتشكيلها. حضور الحكومة في مقابل غياب الدولة كاد أن يصبح اعتيادياً لولا أن العراقيين بتكويناتهم المختلفة يدفعون ثمن هذا الغياب غالياً في حاضرهم ومستقبلهم. وخلال وجود الحاكم العسكري الأميركي منذ عام 2003 لم يكن أحد يحلم في أن يساهم محتل في التصدي لمشروع الدولة المحطمة. فالقضية لا تعني المحتل ولا تشغل أولوياته. أما وقد تشكلت حكومة انتقالية مختارة عام 2004 كان الأمل معقوداً على أن تكون بداية لإطلاق مشروع الدولة، لكنها انشغلت في حروبها في الفلوجة والنجف ولم يكن بمقدورها التصدي لهذا المشروع. ومع تشكيل الحكومة مجدداً منتخبة بمقاطعة"السّنّة"كان الحديث متواتراً عن إنجاز الدستور باعتباره نواة الدولة، لكن الدستور كرس اهتمامه بالحكومة، تشكيلها وتقسيمها، فترك أسئلة الدولة معلقة ومؤجلة. في الحرب الأهلية لم يكن أحد يجرؤ على الحديث عن الدولة، فأي حديث قد يتحول الى قشة تقصم ظهرها وهي التي تنازعتها الأعلام والتوجهات والتخندقات والمشاريع حتى باتت الحكومة نفسها حلماً. بعد تلك الحرب كان على الجمهور أن يدعم الحكومة كساتر أخير أمام تهشم ما تبقى من الدولة، كان عليه أن يزيد ثقة أشخاصها بأنفسهم لينتقلوا الى المرحلة الجديدة، يشد من أزرهم عبر صناديق الاقتراع، يقوي عزيمتهم متجاوزاً المآخذ والنواقص، غاضاً الطرف عن عمليات النهب المنظمة التي أفرغت خزينة البلاد وزادت من تقهقر مشروع الدولة. لكن، في خضم كل هذا التقلب في المناخ العراقي كانت الحدود قد تلاشت تماماً بين الدولة والحكومة. الذاكرة العراقية تحتمل مثل هذا الدمج، فالدولة استمرت طوال قرن تقاوم محاولات ابتلاعها على يد الحكومة، وخسرت في النهاية معركتها مع قدوم نظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين الذي غابت في عصره الحدود ودمجت في نطاق حزب واحد وشخص واحد، لكن هذا الدمج لم ينهِ تماماً مفردات الدولة ممثلة بمؤسساتها، فحزب البعث لم يكتف بدمج الحكومة بالدولة وبالحزب والشخص بل امتد الى دمج الشعب بالحزب ما سمح للدولة بأن يكون لها تمثيل عبر مؤسساتها وهيكليتها حتى من تحت غطاء الحزب. اليوم يعاد التساؤل الى دائرة الضوء، فما الذي يمنع الوسط السياسي العراقي من محاولة تدعيم الدولة؟ والدولة بعيداً من التوصيف التاريخي والاجتماعي والعاطفي هي منظومة مؤسسية بامتياز، والهيكل المؤسسي للدولة يفترض أن يعمل في شكل منفصل وأكثر ثباتاً عن الحكومة. أما الحكومة في جوهرها فهي أداة قيادة ذات بعد سياسي، ما يتيح التساهل في اشتراطات التشكيلة الوزارية خصوصاً الائتلافية منها. والحكومة متغيرة أيضاً وهي امتداد للحراك السياسي، فتكون أكثر تماسكاً وأقل عرضة للتغيير خلال فتراتها الدستورية في التجارب الديموقراطية الرصينة، فيما تصبح أكثر هشاشة وعرضة للمتغيرات والتبديلات في التجارب الأكثر حداثة وخصوصاً في مرحلة الانتقال الديموقراطي. والفصل بين الحكومة المتغيرة ومؤسسة الدولة الثابتة ليست بدعة فهي تدخل في صميم الفلسفة الديموقراطية، والفصل يضمن استقرار النظام السياسي بصرف النظر عن المتغيرات في الحكومة. من هذا المنطلق تحديداً تبدو التجربة العراقية الحديثة التي دمجت في وقت مبكر الحكومة بمؤسسة الدولة عبر منظومات التقاسم الطائفي والقومي والحزبي عاجزة عن اتخاذ مسارات واضحة نحو التحول الديموقراطي أو الخروج من مستنقع الفساد. فتغيير الحكومة في العراق هو مناسبة لتغيير الدولة برمتها، وتغيير عائدية وزارة هو مناسبة لتبديل مفاصلها، والاتفاقات والصفقات على تشكيل الحكومة تصل الى جوهر الدولة عندما تمتد الى تقاسم تفصيلي لمناصب ذات طابع مؤسسي ووظيفي في هيكلية الدولة مثل وكلاء الوزارات والمدراء العامين ومدراء الدوائر ومسؤولي الوحدات العسكرية وقيادات الشرطة. الوسط السياسي الذي ادعى انه بمعرض إعادة بناء الدولة، كان قد كرّس فرضية إنهائها تماماً عبر إفراغها من بعدها المؤسسي. ولا تخلو القضية من التباسات ومخلفات عملية"تبعيث"مؤسسات الدولة العراقية في السابق والطبقة الجديدة كانت استخدمت تلك الالتباسات لرفع شعار"تطهير مؤسسات الدولة"وساندت الإرادة الإميركية هذا التوجه عبر سلسلة من قرارات"بريمر"الشهيرة ما زالت تطبق حتى اليوم بحذافيرها على رغم ان الجميع يدعي ان العراق بلد كامل السيادة. تحت سقف عملية"التطهير"تحركت أسس الدولة لتندمج بمقتضيات المحاصصة، وفي خضم إعادة تعريف الدولة، برز تعريف منفرد يتعلق بكونها"عملية سياسية"وحكومة. أقرب مثال على هذا الرؤية المبتورة للدولة ردود الفعل الحكومية والسياسية على التظاهرات التي خرجت في العراق، فهي افترضت منذ البدء أن الحكومة هي معادل موضوعي للدولة، وأن شعار تغيير الحكومة هو عملية انقلاب على الدولة. بالطبع لا يتذكر أحد في معرض الحرب المستعرة حول توصيف التظاهرات العراقية بأن الحكومات تتشكل وتحل في نطاق شرعية برلمانية، وأن البرلمانات تحل وتتشكل في إطار شرعية دستورية، وأن الدساتير تكتب وتلغى في إطار شرعية شعبية. وكل ذلك لا يمس جوهر الدولة التي تحتفظ ببعدها المؤسسي ولا تغير جلدها مع تغيير الحكومات او البرلمانات. والحديث برمته شديد الالتصاق بالأسلوب الذي اختاره الوسط السياسي العراقي من حكومة وبرلمان ومناصب تكميلية للاستجابة الى مطالبات الجماهير بالتغيير. وبدا من المؤسف أن تستثمر القوى العراقية المختلفة التظاهرات ذات المطالب الملحة والإنسانية في جوهرها في نطاق صراع معقد وخطير يجهل الشارع العراقي مفرداته وإن كان يعاني يومياً من نتائجه. فالبرلمان العراقي الذي تغلب على عمله الشعارات والخطابات يبدو بعيداً تماماً من إدراك ضرورة البدء الفوري في إعادة إحياء مشروع الدولة وفصله عن مشروع الحكومة ومشروع المحاصصة كمدخل وحيد لا بديل عنه للإصلاح البنيوي ووضع حد للفساد بكل مستوياته الذي يعرقل البناء الاقتصادي والانتقال الديموقراطي. ولأنه البرلمان غائب فإن من الطبيعي أن تكون حلوله المتوافرة ذات طابع قشري على غرار إعادة الانتخابات المحلية أو المطالبة الشعاراتية بمكافحة الفساد عبر منح منظومة"بوليس النزاهة"المزيد من الصلاحيات ليغفل مجدداً عن حاجة البلاد الى سلسلة إجراءات وقوانين تحقق الفصل الميداني بين الحكومة كمؤسسة سياسية وبين الحكومة كمؤسسة إدارية من جهة وبين الدولة كنظام يمتاز بالثبات وبين قيادة الحكومة مؤسسات الدولة. في المقابل فإن مطالبة رئيس الحكومة بمنحه صلاحيات إحداث تغييرات في هيكلية الدولة يصطدم بخطورة نقل واقع تلك المؤسسات من الارتهان للمحاصصة الحزبية الى الارتهان لإرادة حزب واحد أو شخص واحد. كما ان البناء على تغيير الأشخاص في هيكلية الدولة مثل المدراء العامين ووكلاء الوزارات الأصيلين من قبل الحكومة ممثلة بالوزير ورئيس الوزراء باعتباره حلاً لمشكلة الفساد يبدو كمخطط حزبي لا كحل مؤسسي. والأجدى هو تدعيم مؤسسات الدولة لتكون بعيدة من المتغيرات السياسية وسحب سطوة الأحزاب من داخلها عبر شبكة الوكلاء والمدراء المعينين منذ عام 2003 بعقود بواسطة أحزابهم. واللافت أن من نتائج التظاهرات العكسية التي برزت أخيراً هي التوجه الى أن تتحول تلك الشبكة من العقود الموقتة الى التعيين الثابت في الدولة كتكريس لفساد مؤسسة الدولة بديلاً عن مكافحته. وبدا غريباً أن يكون مدير أو مستشار مشكوك بشهادته الدراسية، عين بواسطة حزب أو ميليشيات بعد عام 2003 وحول الوزارة الى وسيلة كسب حزبي وشخصي عبر صفقات مشبوهة، أول المستفيدين من نتائج التظاهرات بعد قرار تحويل العاملين على الملاك الموقت الى الدائم ليصبح منذ اليوم جزءاً من الدولة لا من نظام المحاصصة! وتلك ليست أعراضاً جانبية للحلول والإجراءات بل هي ببساطة إجراءات خاطئة في صميمها تستثمر الغضب الجماهيري لتكريس الفساد لا معالجته ولتهشيم ما تبقى من الدولة بدل إعادة بنائها. فكيف يمكن تصور إيجاد حل للفساد إذا كانت للأحزاب حصص في موازنات الوزارات وفي صفقاتها شراءً أو بيعاً وفي الأموال المخصصة لمشاريعها؟ وكيف سيتم القضاء على الفساد إذا كان المدير العام وموظف الخدمات يتبادلان القرار في المؤسسة بناء على قوة وضعف حزبيهما ومليشياتهما؟ وكيف سيتسنى بناء الدولة اذا كانت الشركات والمتعاقدون والمستثمرون عراقيين وأجانب يعرفون مسبقاً أن لا فرصة لهم للعمل مع أي مؤسسة عراقية من دون راعٍ حزبي يحرص على تسهيل العمل ومنع العراقيل من الأحزاب الأخرى مقابل أموال وحصص غير مشروعة داخل تلك المشاريع. كيف يمكن العمل على تحسين موقع العراق المتدني في قائمة منظمة الشفافية الدولية اذا كانت كبرى الشركات العالمية الملتزمة معاييرَ المنظمة شكلاً تتورط بعقود غير شرعية من الباطن مع أحزاب عراقية متنفذة لضمان عملها في العراق؟ وهذه الحقائق يدركها السياسيون العراقيون الذين يحاولون اليوم اتخاذ خطوات لترقيع الأزمة بديلاً عن حلها. والغريب أن اختلاط المفاهيم يصل أيضاً الى تعريف الفساد حيث يتم على نطاق رسمي وإعلامي تقزيم المصطلح ليحصر في مفردة"الرشوة"على رغم أن التعريف الدولي يتعلق بكل"عمل يتضمن سوء استخدام المنصب العام لتحقيق مصلحة خاصة ذاتية لنفسه أو لجماعته". والفساد العراقي هو اليوم مؤسسة قائمة بذاتها موازية لمؤسسات الدولة والحكومة والأحزاب ومتداخلة معها. بل إن مؤسسة الفساد هذه هي نتاج للبيئة المواتية التي سمحت بتداخل الدولة والحكومة والأحزاب لكنها تمتد الى أبعد من ذلك لترتبط بمافيات وشبكات غسيل أموال ومصالح دولية وشركات كبرى واستخبارات. ولأن الفساد مؤسسي ويمتلك جذوراً عميقة يقترن بعضها بظواهر اجتماعية وتاريخية فإن من غير المبرر افتراض مساهمة أي إصلاح على مستوى إقالة أو تعيين مسؤولين في تغيير هذا الواقع. قبل التوجه الى جذر المشكلة حيث تفقد الدولة كمؤسسة وجودها.