هزت الاحتجاجات التي اجتاحت المدن العراقية التحالفَ الحكوميَّ الهش، وكشفت صعوبة المضي في توافقات عاجزة عن تلبية مطالب الشارع. ويُتوقع ان تتجدد اليوم تظاهرات ناشطي «الفايسبوك» من شباب وطلاب وعاطلين عن العمل ومثقفين وفنانين ومنظمات مجتمع مدني في ساحة التحرير، وسط بغداد. واقترح المنظمون تسميتها «يوم الحق» و «الإصرار» أو «جمعة كامل الزيدي»، في إشارة الى رئيس مجلس محافظة بغداد، الذي يطالب المتظاهرون بإقالته منذ اسابيع. ووسط الإصرار على التظاهر، تجد الحكومة العراقية نفسَها مرتبطة برئيسها نوري المالكي، وقد شُكِّلت بعد مخاض صعب بتوافقات معقدة سمحت باشتراك 4 كتل تمثل 99 في المئة من البرلمانيين. حركة الاحتجاجات الشعبية كشفت ان التيارات التي شكلت الحكومة تتفق ضمناً على لعب دور المعارضة من داخل الحكومة، وهذه مشكلة متجددة منذ الحكومة السابقة، وأكدت العجز المتواصل منذ 8 سنوات عن تطوير حقيقي في البلاد، وفي تحديد المسؤوليات عن الفساد الهائل الذي ينخر اسس الدولة ويبدد نسباً كبيرة من الموازنة التي وصلت الى اكثر من 82 بليون دولار عام 2011. وما يثير الانتباه، أن وسائل الاعلام وصفحات «الفايسبوك» و «تويتر» بدأت عملية العد التنازلي لمهلة ال 100 يوم التي منحها المالكي لوزرائه لإثبات كفاءتهم، وقد مضى منها 13 يوماً. لكن رئيس الحكومة الذي يدرك صعوبة تقديم أجوبة ملموسة الى الشارع، اسْتَبَقَ التسليم بهذا الواقع بالطلب من البرلمان مَنْحَه صلاحيات إضافية لإقالة وزراء ووكلاء وزارات ومديرين عامين، مع معرفته مسبقاً بصعوبة الحصول على هذه الصلاحيات. أطراف مثل «القائمة العراقية» و «التحالف الكردستاني» و «المجلس الاسلامي الاعلى» و «تيار الصدر»، وقد أيدوا بدرجات متفاوتة التظاهرات أو حاولوا النأي بأنفسهم عن الحكومة، يتحدثون عن إمكان استخدام المالكي احتجاجات الشارع لإجبارهم على تقديم تنازلات تسمح لحزبه «الدعوة» بالسيطرة على هيكلية الدولة عبر حملة تغييرات وزارية وإدارية منهجية باسم الإصلاح تتجاوز سلطات الحكومة. وتتعرض هذه الاطراف بدورها الى اتهامات ضمنية وعلنية من المالكي، بأنها ركبت سريعاً موجة الاحتجاجات لتبرئة نفسها من المسؤولية، علماً انها تتقاسم مع الحزب والاطراف المتحالفة معه في «دولة القانون» كعكة المناصب الوزارية والادارية في الدولة، وصولاً الى المديرين العامين والقادة والضباط في الجيش والشرطة. وستصل الاتهامات المتبادلة في علاقات حكومة «التوافقات» الحالية، الى «دائرة مغلقة يدور فيها الوسط السياسي، بسبب انعدام الثقة بين أطرافه والعجز عن توفير مستلزمات بناء الدولة واستثمار الموازنات ومنع الفساد. وفيما يسقط السياسيون العراقيون والمتظاهرون أيضاً في فخ «الشخصنة السياسية»، عبر التركيز على إقالة أشخاص او تعيين آخرين، فإن الخلل المركزي في بناء الدولة العراقية وهياكلها بعد عام 2003 سيستمر، بعيداً عن مبادرات الاصلاح. ومعلوم ان المحاصصات التي امتدت بفعل المتقاسمين المتخاصمين، من رأس الهرم ذي الطبيعة السياسية الى أصغر المناصب ذات الطابع الوظيفي، عرقلت تطور الهيكل الإداري لمؤسسات الدولة، فلا ينتظر اي موظف الحصول عبر التدرج وتراكم الخبرات على منصب مدير في دائرة بلدية في أقاصي ريف العراق، من دون تزكية سياسية في نطاق التقاسم، فيما يكون متاحاً لشاب ذي خلفية سياسية نيلُ منصب وكيل وزارة من دون المرور بالضوابط الادارية والمهنية، وتلك ارضية خصبة لازدهار الفساد. والحل الذي يطرحه كتّاب وسياسيون مستقلون من المتعاطفين مع التظاهرات، لا يتعلق بالسماح لرئيس الحكومة بإحداث تغيير في الهيكلية الإدارية للدولة ولا الإبقاء على نمط المحاصصة، بقدر فصل تلك الهيكلية عن نظام المحاصصة برمته وضمان تطبيق سليم للقوانين الوظيفية والسُّلَّم الاداري، ما يسمح بضمان أداء مهني للمؤسسات، بصرف النظر عن الطبيعة السياسية لمنصب الوزير.