بعد حلّ حزب"الرفاه"الاسلامي التركي، ورِثه"الفضيلة"ثم انقسم الأخير إلى جناح محافظ هو حزب"السعادة"الأكثر وفاء لأفكار أربكان وجناح براغماتي هو"العدالة والتنمية"بزعامة أردوغان، الذي علّمته تجربة البلديات أن الإنجاز الخدماتي والبعد عن الفساد هو الطريق لكسب الناس. ومع ترؤسه الحكومة منذ 2002 أدرك أردوغان أهمية الإنجاز الاقتصادي وأهمية ارتباط تركيا بالغرب، فاتجه إلى تعزيز فرص الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، في حين كان أحد المسوّغات الحقيقية التي استخدمها العسكر في إسقاط أربكان هو أنه وضع كل خططه باتجاه استقلال تركيا صناعياً واقتصادياً عن الغرب. لقد سعى أربكان لخدمة بلده وزيادة نموها الاقتصادي لكنّه أخطأ الطريق، وهو ما ينجح فيه أردوغان منذ سنوات. وكأنما يتبيّن لنا من المقارنة بين التجربتين ما يأتي: أولاً، أنّ وصف"إسلامي"أقرب لأربكان منه لأردوغان، ووصف"وطني"أقرب لأردوغان، حيث يبدو أربكان مهجوساً ب"الهوية"الدينية والمحيط الإسلامي وتقبع في وعيه مسألة الخلافة الإسلامية، فيما يظهر أردوغان كمؤمن بتركيا بوصفها بلداً نهائياً. وإذ من السهل الزعم بأن أربكان يمثّل الإسلاميين وحزبه في شكل أساس، نجد قليلاً من الاعتراض على القول إن أردوغان يمثّل أكثرية الأتراك وما تنطوي عليه تركيا من تنوّع وخبرات مختلفة. وإذا كان أربكان مهتماً، مثلاً، بالتركيز خلال فترة حكمه، على دعوة رؤساء الجامعات لرفع السلام وأداء التحية للمحجبات، مال أردوغان إلى القول إنّ مسألة الحجاب يُصار إلى معالجتها استناداً إلى"توافق اجتماعي"تقع في القلب منه مؤسسات الدولة. ثانياً، أردوغان أقرب إلى منطق السياسة وإدارة الشأن العام من حيث بروز النزعة البراغماتية، بينما ينزع أربكان إلى المبدئية. وفي حين اتجه اربكان إلى تعزيز الإسلامية في تركيا وسيلة في التعبير عن إرادة الناخبين، اتجه أردوغان إلى تأكيد أهمية أن يكون نموذجه ديموقراطياً، ونجح في نقل تركيا من دولة علمانية تقف موقفاً سلبياً من الدين إلى علمانية محايدة تجاه الأديان، بل لم يمنع أردوغان من التعبير عن ذلك بقوله إن العلمانية شرط ضروري لحماية الديموقراطية وضمان حرية الدين. وأزعم أننا لا نحظى حتى اللحظة بمؤشرات كافية أو شواهد شافية تؤشر إلى أنّ جماعات"الإسلام السياسي"في المنطقة العربية غادرت منطق تقسيم الناس/ المواطنين بين أصدقاء وأعداء، أيْ أنها لم تقدّم ما يكفي للاطمئنان الفكري الى أنهم يرون إلى تولي الحكم كلعبة ديموقراطية فيها الكثير من المتنافسين، وليس رسالة دينية يجوز من أجلها تجاوز مبدأ"الشعب مصدر السلطات"والسيادة باتجاه إرساء مفهوم أكثر تشدداً مستخلص من وحي أن السيادة للشريعة، وهو مفهوم ما زال ملتبساً في الفكر الإسلامي. ولنا أن نتذكّر خطبة الراحل نجم الدين أربكان أواسط تشرين الأول أكتوبر 2010 حين خاطب ناخبي حزب"السعادة"واعداً إياهم بالوصول مجدداً إلى الحكم والانفراد به. في هذه الخطبة تحدى أربكان جميع القيادات السياسية في تركيا، وفي مقدمها رئيس الوزراء أردوغان، قائلاً:"مصيدة الأعداء اختطفت منا أبناءنا، فانشق عنا تورغوت أوزال ثم انشق عنا أردوغان، لكن حان الوقت كي يعرف الجميع الفرق بين الأصل والتقليد، إذ شتان ما بين الدمية والأصل، وسيرى الجميع كيف يكون العمل السياسي الصحيح". ثالثاً، رأى أربكان أن الوطن والإسلام ينبغي أن يكونا في المرتبة الأولى حتى لو اصطدم ذلك مع العالم أو مع مواقع قوى نافذة، في حين أدرك أردوغان أن حماية الوطن والإسلام تستوجب التصالح مع العالم وروح العصر ومنطق العلاقات الدولية وموازين القوى الداخلية، حتى لو تسلّح المرء بشرعية انتخابية. وفيما أراد أربكان الاستقلال عن الغرب والاكتفاء ذاتياً، أدرك أردوغان أن الارتباط الأوثق بالعالم هو طريق التقدم الاقتصادي، وقد تركتْ رحلة الانضمام إلى"الاتحاد الأوروبي"أثرها في ضرورة إقدام"العدالة والتنمية"على الكثير من الإصلاحات السياسية والاقتصادية والفكرية للتؤهل إلى أخذ عضوية هذا النادي. رابعاً، لم يكن في مقدور أردوغان الوصول إلى التجربة الغنية الحالية لولا تجربة أربكان و"الرفاه"وأخذ الدروس منها، لكنّ أردوغان أضاف إليها الكثير، مؤكداً أن حزبه لم يعد يعكس توجهات فكرية عامة، بل كرّس وطنيته وواقعيته عبر تمثيله مصالح طبقات اجتماعية أهمها التجار ورجال الأعمال وأصحاب الإنشاءات في منطقة الأناضول، وهي تجربة أقرب إلى مفهوم البرجوازية المسلمة الذي يتحدث عنه الباحث ولي نصر في كتابه"صعود قوى الثروة". إنّ نجاح الإسلاميين الانتخابي اليوم يوفّر لهم فرصة تاريخية لتقديم نماذج على غرار تجربة"العدالة والتنمية"التركي وربما أفضل، إذا تذكّرنا القصور الذي تنطوي عليه هذه التجربة التركية في مجال حقوق الأكراد والأقليات، مثالاً لا حصراً. وشرط اقتراب الإسلاميين العرب من النجاح التركي أو تجاوزه باتجاه إنتاج تجارب محلية ناجحة قابلة للتصدير والاستلهام هو إجراء جراحات وتعديلات أيديولوجية مهمة للتماشي مع منطق السياسة القائم في الأساس على المصالح والموازنات والمقاربات والإيمان بالآخر أكثر من قيامه على الثنائيات الحدّية والمعادلات الصفرية. وهي مقارنة يجدر ب"الإخوان المسلمين"العرب وغيرهم من الإسلاميين التأمل فيها وهم يجنون ثمار"الربيع العربي"انتخابياً. * كاتب أردني