الفوز الساحق الذي حققه "حزب العدالة والتنمية" التركي في الانتخابات النيابية، للمرة الثانية، له أهمية ودلالة خاصة تتعدى الانتخابات السابقة، وتبرهن على نجاح الحزب في تجربته في الحكم خلال السنوات الأربع السابقة. وتختلف القراءة العربية لتجربة العدالة بين موقف يدعو إلى تعميمها وآخر يقلل من أهميتها ويحاجج باستحالة تطبيقها في العالم العربي، لكن بين هذين الموقفين هنالك مساحة واسعة تتمثل في المجالات التي يمكن أن تستفيد فيها الأحزاب الإسلامية العربية من تجربة العدالة، مع الإقرار ?ابتداءً- بعدم إمكانية"استنساخ"التجربة في الفضاء السياسي العربي. مجال المفارقة كبير وواضح بين النظام السياسي التركي والنظام السياسي العربي"في النظام التركي الفيتو العسكري فقط ضد الحركات الإسلامية، لكنه يسمح للآخرين بالوصول إلى السلطة وتولي الحكم، وهو ما حدث مع العدالة والتنمية نفسه عندما أعاد هيكلة شعاراته وعناوينه وبرامجه"فقد تمكن من الاستمرار في الحكم. بينما في العالم العربي حالة"الاستعصاء السلطوي"تنسحب على جميع القوى والأحزاب الإسلامية وغير الإسلامية، ومن يمسك بالسلطة لا يريد التخلي عنها للآخرين، مهما كانت مشاربهم الأيديولوجية والسياسية، ناهيك أنّ الانتخابات التركية لا مجال فيها للتزوير والتلاعب بقوانين الانتخابات أو البلطجة ضد المعارضة أو تدخل اليد الأمنية الطويلة للحيلولة دون تحقيق الإسلاميين فوزاً كاسحاً. هذه المفارقة صحيحة مئة في المئة، لكنها في الوقت نفسه تكشف عن سرّ تميز وإبداع أردوغان ورفاقه واختلافهم عن"أستاذ"الحركة الإسلامية التركية نجم الدين أربكان. فقادة العدالة أيقنوا حين أسسوا حزبهم الجديد أنّ إصرارهم على الشعارات والعناوين ذاتها سيقودهم دوما إلى الطريق المغلق وستدور التجربة الإسلامية التركية في الحلقة المفرغة ذاتها، فقاموا بقلب الطاولة وتغيير أوراق اللعبة كاملة، وقطعوا المسافة المتبقية من الأيديولوجيا إلى البراغماتية، مخالفين أستاذهم الذي علق في منتصف الطريق! أمّا إسلاميو الشرق الذين أعلنوا إيمانهم بالديموقراطية والتعددية وتداول السلطة، فهم أقرب إلى النسخة الأربكانية"الأيدوبراغماتية"منتصف الطريق بين الأيديولوجيا والبراغماتية، وقد جمدوا على كثير من المواقف الفكرية والسياسية، وثمة تردد وخوف كبير من القيام بغربلة كاملة وتجديد بنيوي في طرحهم الفكري والسياسي، وربما في هذا ردّ على تبرير المفكر المعروف، فهمي هويدي، لجمود إسلاميي الشرق أنهم"شُغِلوا بالدفاع عن أنفسهم بدلاً من التطوير والتجديد". فالحركة الإسلامية التركية ? أيضاً- كانت تعاني الحصار والاضطهاد وأُعدِم قادتُها في الستينات وسجنوا لكنهم طوّروا وجددوا وخرجوا من عنق الزجاجة، وهذا درس مهم وحيوي لإسلاميي الشرق، إذا أرادوا أن يتجاوزا حالة"مكانك سر"التي يمارسونها منذ عقود. أهم ما يقدمه العدالة والتنمية هو تبني مفهوم"العلمانية المؤمنة""وفك الاشتباك سلمياً بين الدين والعلمانية، من خلال تحديد الأرض التي يحتلها الدين في المجال العام والخاص. فأردوغان حين يرفض أنه حزب"إسلامي"يقول إنه يضع القرآن في قلبه، ويسير إلى الأمام، بمعنى أنه يستبطن القيم والأخلاق والمفاهيم الإسلامية في مواقفه وسياساته ولا يجعلها"عقبة"يصطدم بها في طريقه وفي صراعه السياسي مع خصومه. وحزب العدالة والتنمية إذ يقبل بالعلمانية فإنه يعيد تعريفها على أنها"الحرية الدينية"، وهي كلمة يقبلها الغرب، لكنها في الوقت ذاته تصادر على مفهوم العسكر التركي الذي يتبنى العلمانية"اللائكية"اللادينية. فما يحتاجه إسلاميو الشرق هو تقديم رؤية فكرية وسياسية معاصرة لمفهوم الدولة الإسلامية ومعنى تطبيق الشريعة، بدلاً من التسمُّر عند لغة الشعارات الفضفاضة! ما سبق يقودنا إلى ملاحظة أخرى، على درجة كبرى من الأهمية. ف"حزب العدالة والتنمية"قبل وصوله إلى الحكم كان قد قدّم رؤية اقتصادية نقدية بالأرقام والمعلومات وبصورة محترفة ومِهَنيّة، ونجح في تطبيق برنامجه وإخراج تركيا من الأزمة العاصفة، متبنياً رؤية ليبرالية تقوم على ربط الاقتصاد التركي بالعولمة، وهذا ليس محل انتقاد حقيقي، والدليل أنّ الناس انتخبوا الحزب على هذا الخيار والبرنامج. أمّا إسلاميو المشرق فالجانب الاقتصادي هو الثقب الأسود الذي يبتلع كل وعودهم وشعاراتهم، إذ لا يقدمون شيئاً، ويكتفون بلغة خشبية لا تسمن ولا تغني من جوع، وكأن"الاقتصاد"سؤال ثانوي أو هامشي، مع أنه محرك أساسي في عالم اليوم. المفارقة اللافتة بحق أنّ اسلاميي الشرق ولجوا إلى الحياة الاقتصادية من باب خدماتي واستثماري يقوم على تحقيق الربح السريع والاستثمار في عواطف الناس الدينية وفي تلك الفتاوى التي تعطي"مشروعية حصرية"لمؤسسات الحركة الإسلامية، في الوقت الذي يهاجمون الرأسمالية والليبرالية! مع أنّ الحركات الإسلامية تمتلك نخبا تكنوقراطية يمكنها تفعيلها والإفادة منها. ويمكن لإسلاميي الشرق التحضير لدور مستقبلي من خلال ابتعاث عدد من الشباب لدراسة الاقتصاد والإدارة والعلوم الإنسانية التي تساعد على توفير الكوادر الاستراتيجية ووضع البرامج الواقعية. أحد الفروق الرئيسة بين العدالة والأحزاب الإسلامية العربية أنّ قادة العدالة من أصحاب العقول الجبارة الاستراتيجية القادرة على أخذ زمام المبادرة وإدارة الصراع السياسي بجدارة واحتراف، بينما"إسلاميونا"من أصحاب الحناجر المنتفخة الجبارة لديهم مهارات لغوية وخطابية هائلة! العدالة والتنمية يمتلك برنامجاً وطنياً يدرك المصالح الحيوية التركية ومطالب الشعب واحتياجاته ومصالحه ويسير ببلاده إلى الأمام، ويعرف كيف يميز بين الممكن والواجب والتكتيكي والاستراتيجي، أمّا"إسلاميونا"فما زالوا يناقشون كيف يواجهون حكومات ضعيفة عاجزة، مع أنّ هذه الحكومات أصبحت تتكىء على وجودهم وخُطبهم لتبرير استمرارها! باختصار، لا تقولوا، أنّه لا يوجد ما يستفيد منه إسلاميو المشرق من الأستاذ أردوغان! سامي شورش في ظاهرها العام أسفرت الإنتخابات التركية الأخيرة عن فوز كبير للإسلاميين السياسيين المتمثلين في"حزب العدالة والتنمية". لكن الحقيقة التي لا يوليها كثيرون إهتماماً تؤكد أن أصل الفوز تحقق، أيضاً، بفعل الدعم الذي قدمته شرائح غير دينية للائحة العدالة والتنمية الذي يتزعمه رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان. فالصراع في تركيا، خصوصاً خلال العقد الماضي، لم يعد يقتصر على ما يجري بين النزعتين العلمانية والدينية من صراعات، بل أصبح يمتد الى دائرة معقدة تشمل أيضاً الصراع بين العلمانية في صورتها الكمالية الحاكمة ونسيج هائل من القوى السياسية والثقافية غير الدينية يضم في طيّاته تنويعات علمانية ديموقراطية وكردية وعلوية وأرمنية وتركية نابذة للقومية في صورتها الكمالية التقليدية. في هذا المعنى، يصح القول إن الفوز جاء إسلامياً. لكن الذي أعطى لديموقراطية ذاك النصر محتوى أعمق وأوسع هو شعور شرائح غير دينية بأن النصر جاء لصالحهم. في هذا المنحى، لا جدال في أن الإسلام السياسي المعتدل يشكل ثقلاً اساسياً في الشارع السياسي التركي، على الأقل منذ التغييرات العميقة في بنية السياسة في العالم مع مطلع التسعينات. ولا جدال أيضاً في أن الكتلة الأساسية لهذا الإسلام السياسي تتألف من شرائح واسعة من المتعلمين والأكاديميين وطلاب الجامعات والمهندسين والأطباء، ما يضفي عليه مسحة واضحة من العصرنة والإعتدال. الى هذا، لا جدال في أن الإسلاميين في تركيا، على عكس العلمانيين والأكراد وبقية الأطياف السياسية، تميزوا، أولاً، بنجاحهم البارع في عزل الإتجاهات الدينية المتشددة والمتطرفة. وثانياً، بقدرتهم الكبيرة على لمّ شمل الجزء الأعظم من المسلمين الأتراك حول طروحاتهم. لكل هذه الأسباب، ولأخرى إقتصادية وسياسية وثقافية، حصل العدالة والتنمية على نسبة أصوات فاقت بكثير نسبة الأصوات التي حصل عليها الحزب ذاته في إنتخابات 2002، وبدا هذا بمثابة حالة طبيعية. مع ذلك، يظل صحيحاً أن مشهد النصر اللافت لحزب أردوغان أوسع بكثير من هذه التفاصيل. فنسبة الأصوات العالية التي حصل عليها ضمت نسبة غير قليلة من أصوات لا تعود الى الإسلاميين أو الى منتسبي الحزب، بل تعود الى شرائح ومجموعات غير دينية وغير منضوية في إطاره. وقد تكفي الإشارة الى مثال واحد لنعرف مدى الإسهام البارز لفئات غير مسيسة دينياً في صياغة نتائج الإنتخابات: فالأكراد الذين إستهوتهم تصريحات لأردوغان تميزت بالمرونة والعقلانية حول الشأن الكردي، أطلقها في ديار بكر قبل أكثر من ثلاثة أشهر، رأوا ضرورة دعمه في مواجهة المؤسستين التركيتين التقليديتين، العسكرية والسياسية، فخاضوا الإنتخابات الأخيرة في إتجاهين: الأول، عبر لائحة"حزب العدالة والتنمية"حيث حصلوا من خلالها على 88 مقعداً من مجموع المقاعد التي حصل عليها الحزب 340 مقعدا. والثاني، عبر ترشيحات فردية مستقلة حصلوا من خلالها على 24 مقعداً. هذا إضافة الى أربعة أو خمسة مقاعد أخرى أحرزوها من خلال لوائح إنتخابية أخرى تابعة لبقية الأحزاب. ويشار الى أن القسم الأكبر من المستقلين الأكراد الذين حصلوا على عضوية البرلمان ينتمون في الأصل الى"حزب المجتمع الديموقراطي"ذي التوجهات الكردية الذي لم يدخل الإنتخابات بقائمة معلنة. وكانت أنقرة قد دخلت خلال الاشهر القليلة الماضية في توترات كبيرة مع أكراد العراق. بل إن الجيش التركي هدد بإجتياح مناطقهم في حال إستمرت الأحزاب الكردية العراقية في السماح لمقاتلي حزب العمال الكردستاني بإتخاذ بعض الجبال الحدودية ملاذاً لنشاطاتهم. الى هذا، عاشت تركيا توتراً آخر مع أكرادها خصوصاً في ظل تجدد المعارك مع مقاتلي حزب العمال في أطراف مدينتي دياربكر وتونجلي. وترافقت هذه التوترات مع ضغوط من الولاياتالمتحدة والإتحاد الأوروبي هدفت الى منع الجيش التركي من الإقدام على أي خطوة إستفزازية عسكرية في حق أكراد العراق، أسهمت لاحقاً في ترسيخ قناعة لدى أكراد تركيا مفادها ضرورة العودة الى خوض الإنتخابات، إن على شكل مستقل أو عبر دعم لائحة العدالة والتنمية. فالمشكلة التي تعترض طريق تركيا، في رأي الأكراد، لا تتمثل في الإسلام السياسي المعتدل، إنما في القبضة العليا لمؤسسة الجيش التي تتحكم بالحياة السياسية في البلاد. وقناعة الأكراد أن هذه القبضة لا يمكن تخفيفها من دون إحداث تغيير عميق في مؤسسة الحكم التركي بدائرتيها البرلمانية والحكومية. في هذا الإطار، قد يصح التوقع أن النسبة القليلة لمقاعد النواب المستقلين الأكراد 24 مقعداً قد لا تغير شيئاً أساسياً في المشهد السياسي التركي. لكن الأصح أن حزب أردوغان الذي يمتلك 340 مقعداً سيعجز عن تطبيق برامجه من دون ضمان تحالف برلماني مع الكتلة الكردية. فالإغلبية في البرلمان لا يمكن أن تتحقق من دون تجاوز حاجز ال367 نائباً. لهذا، يرى الأكراد أن عودتهم الى البرلمان بمثابة تطور عميق قد يحمل معه تأثيرات ملموسة على مسارات الوضع السياسي في تركيا. فالبرلمان خلا منذ تسعينات القرن الماضي من أي تمثيل كردي بعدما أودعت المحكمة الدستورية خمسة من البرلمانيين الأكراد، في مقدمهم ليلى زانا، السجن بتهمة أدائهم القسم باللغة الكردية. مع هذا، يظل الإحتمال قائماً بتدخل عسكري لمنع التمثيل الكردي من حرية الحركة والعمل في البرلمان الحالي. لكن في حال حصل التحالف مع حزب أردوغان، فإن العسكر قد يعجز عن زعزعة الموقف الكردي البرلماني. والأهم أن أجواء الفوز الإسلامي في الإنتخابات خلقت حالة قد يشعر معها الجيش بمحدودية خياراته للتأثير في مرحلة ما بعد الإنتخابات. وخلاصة القول إن الإنتخابات الأخيرة أعطت الإسلاميين الحصة الأكبر في مقاعد البرلمان. لكن الأرجح أن هؤلاء لم يفوزوا بهذه النسبة العالية نظراً لإسلاميتهم، إنما فازوا بها لكونهم إمتلكوا رؤية سياسية أقرب الى الواقعية وأكثر إنفتاحاُ وهدوءاً وعقلانية من الأحزاب العلمانية المترعة بالشوفينية والعسكرتارية التي أساءت الى العلمانية بسياساتها المتشددة وحوّلتها الى نموذج نافر. وفيما الحال على هذه الشاكلة، كان طبيعياً أن يهرب ديموقراطيون وأكراد وأرمن وعلويون من العلمانية التركية ليلتفوا حول الإسلام التركي المعتدل.