من القضايا التي لا تنفك تثير جدلاً واسعاً في أوساط المجتمع العراقي الدعوة إلى الفيديرالية في بعض المحافظات أو جميعها، فعلى رغم نص دستور العراق لعام 2005 في مادته الأولى على كون العراق بلداً اتحادياً، أي فيديرالياً، غير أن قطاعاً عريضاً من المواطنين لا يزال ينظر إلى من يدعو إلى إنشاء الأقاليم نظرته إلى من يدعو إلى إقطاعية سياسية له ولأبنائه حصراً، ويرجح هذا القطاع مسألة المطالبة بتمركز السلطات في العاصمة على ما عداها باعتبار أن خيار المركزية يعد مصداقاً لتطبيق قاعدة أهون الشرين من وجهة نظرهم. إن هؤلاء المواطنين عندما تصل بهم قناعاتهم إلى تصور نتيجة إنشاء الإقليم مجرد غنيمة سياسية يستقتل بعض السياسيين للظفر بها دون آخرين فإن هذه القناعات لا تأتي تغزلاً بالمركزية بقدر ما تأتي منسجمة مع طبيعة العلاقة التي ربطت الغالبية العظمى من ساسة العراق بنظام الحكم الذي أعقب تغيير النظام السياسي السابق عام 2003. هذه الطبيعة التي كانت مؤسسة ولا تزال على قاعدة الاستحواذ والاستئثار وتقديم الخاص على العام بدعوى المحاصصة والتوافق وما إلى ذلك من مصطلحات غدت ممجوجة جماهيرياً. وبالنتيجة النهائية لن يكون بمستطاع أحد أن ينتقد ذلك القطاع من الجماهير في تقديمه للشر الأصغر على الشر الأكبر فيوصم ديماغوجياً من قبل بعض الساسة بالحنين إلى العهود الغابرة التي كان لسيطرة المركز أي الديكتاتورية الكلمة الأخيرة في أحكام النقض والإبرام السياسي. وفي ظل احتدام النزاع الحاد بين من يتبنى الطرح المركزي في مقابل الطرح الفيديرالي تغيب عن صورة المشهد الرؤية الوسطية التي تتلخص في منح المحافظاتالعراقية غير المنتظمة بإقليم ما تستحقه من حقوق لامركزية، وفض الاشتباك الحاصل بين تداخل صلاحيات مركز الدولة وأطرافها عبر إقرار قانون جامع مانع للمحافظات غير المنتظمة بإقليم. لا تزال الحكومة تماطل في إعداد نسخة معدلة من قانون المحافظات غير المنتظمة بإقليم تخلف تلك النسخة الفضفاضة من هذا القانون التي بدأ العمل بموجبها عام 2008. وحتى الآن لم نسمع تصريحاً من مجلس النواب يفيد باستلام النسخة الموعودة حكومياً ووضعها على جدول أعماله بقصد إقرارها في شكل يقطع دابر المماطلة والتسويف ويمنح رسالة سياسية مفادها أن النخبة الحاكمة بدأت بتشريع القوانين على سكة خدمة المجتمع عموماً لا خدمة المجتمع السياسي فحسب. إن الدعوة إلى منح المحافظات مزيداً من الصلاحيات التي تستحقها لا يعني أن المحافظات منزهة عن الأمراض النفسية التي تعتور بقية أعضاء المجتمع السياسي من حيث النهم المفرط إلى السلطة وجعلها وسيلة لجلب المنافع الخاصة لا العامة. فبإمكان عيون الرصد دائماً ملاحظة النقمة الشعبية المصوبة نحو مجالس المحافظات ومن يدير ملفات التشريع والإدارة فيها في جميع محافظاتالعراق من دون أية استثناءات. على أن النقد الشعبي الموجه ضد أداء المحافظات بدأ يأخذ أبعاداً أكبر تخرج به عن الشرائح العادية من المجتمع إلى القيادات الدينية والسياسية، وفي هذا السياق يأتي أحدث إنذارات زعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر لأعضاء مجالس المحافظات الذين ينتمون للكتلة الصدرية إذ حظر عليهم العمل الذاتي على حساب العمل لمصلحة المواطنين لا سيما المظلومين والمحرومين منهم. إن فض التداخل بين عمل الوزارات والمحافظاتالعراقية غير المنتظمة بإقليم من شأنه أن يفض بدوره لعبة قذف كرة المسؤولية بين المركز والأطراف أي بين تحميل الحكومة الاتحادية المحافظات مسؤولية القصور أو التقصير بداعي انتفاء الخبرة والكفاءة في مجالس المحافظات، كما يرد على لسان رئيس الوزراء نوري المالكي، أو العكس عندما يتحدث مسؤولو المحافظات عن فشل الوزارات في أداء ما يتعلق بذمتها من التزامات تجاه المحافظات وبالنتيجة فإن حسم قضية الصلاحيات والاختصاصات يحدد بوضوح الجهة المقصرة. إن ما يُضعف من أطروحة العودة بالعراق إلى حكم مركزي كما كان عليه عهد العراق منذ تأسيسه على يد البريطانيين عام 1921 هو أن حكومة المركز في عراق ما بعد 2003 لم تحقق منسوباً يذكر من الحكم المركزي يشمل جميع المحافظات غير المنتظمة بإقليم. فلم تستطع حكومتا المالكي المتتاليتان أن تحظيا بهيمنة معتبرة في محافظات الأنبار وصلاح الدين ونينوى وديالى بل أن نظرة التعالي على الحكومة ورئيسها كان يصدر باستمرار عن المرجعيات الدينية والعشائرية في تلك المحافظات على نحو شبه مستمر لا سيما في محافظة الأنبار. وقد انحصرت هيمنة الحكومة على المدن الشيعية لدواع عشائرية ودينية أكثر منها سياسية. على أن ما يُضعف من أطروحة إنشاء أقاليم جديدة ناجحة في العراق هو احتمال فشل الأقاليم الجديدة بمحاكاة تجربة إقليم كردستان وتحقيق مستويات نجاح على صعيد التنمية والخدمات مماثلة لما حققه إقليم كردستان أو دولة كردستان بحسب تعبير بعض المثقفين العراقيين. لطيف القصاب - مركز المستقبل للدراسات والبحوث - بريد إلكتروني