جمعتني قبل نحو شهرين أو أكثر من الآن، جلسة أخوية مفعمة بمشاعر الود والصداقة، مع الزميل العزيز سعادة السفير محمد جهام الكواري، سفير دولة قطر الشقيقة لدى الجمهورية الفرنسية. استقبلني سعادة السفير الكواري في مكتبه الفخم بمكتب السفارة القطرية الكائن في أروع موقع من جادة الشانزليزيه الباريسية الشهيرة، مطلاً على قوس النصر الذائع الصيت. أما البناية نفسها التي تضم مقر السفارة، فهي بدورها عبارة عن معلم أثري عريق مسجل بقائمة التراث الوطني الفرنسي. وكنت قد زرت السفير الكواري حينئذ بغرض التعارف وللتحية والمجاملة، وذلك بحكم حداثة عهدي سفيراً قادماً للتو إلى عاصمة النور. قال المعري رحمه الله: وإني تيممتُ العراقَ لغير ما تيممه غيلانُ عند بلال وفي ختام تلك الزيارة التعارفية القصيرة أهدى إلي ذلك السفير المثقف والفنان نسخة من مجلد أو كاتالوغ سميك الغلاف، صقيل الأوراق، زاهي الألوان، وبديع التصميم يحتوي على صور لمجموعة كبيرة من التحف الفنية والأثرية الرائعة المحفوظة بمتحف قطر الإسلامي بالدوحة، بعنوان:"من قرطبة إلى سمرقند: روائع من متحف الفن الإسلامي في الدوحة". وتلك المجموعة من التحف والعاديات التي نشرت صورها بذلك المجلد، وتم التعليق بتعليقات وشروح ضافية باللغات العربية والإنكليزية والفرنسية معاً في المجلد ذاته، قد كانت في الواقع، عبارة عن محتويات معرض أقيم تحت العنوان ذاته، في متحف اللوفر بباريس، في الفترة من 30 آذار مارس وحتى 26 حزيران يونيو 2006، وافتتحه آنئذ صاحب السمو الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، أمير دولة قطر، والسيد جاك شيراك الرئيس الفرنسي السابق. وكنت قد أفضيت لسعادة السفير القطري خلال تلك الجلسة، عن شيء من الحسرة التي كنت أحس بها بسبب أنني قد تهيأ لي زيارة الدوحة ثلاث مرات من قبل، وفي مناسبات مختلفة خلال السنوات الأخيرة، من دون أن أتمكن مع الأسف من زيارة متحف قطر الإسلامي، الذي راعني منظر عمارته ومبناه وتصميمه الفريد من الخارج فقط، ولم يكن يسعفني الوقت والظروف في كل مرة لزيارته، ومشاهدة محتوياته من الداخل. فما كان من سعادة السفير إلا أن تفضل مشكوراً بإهدائي نسخة من ذلك المجلد النفيس، أو ذلك"الكاتالوغ"الرائع. فلئن فاتتني مشاهدة محفوظات متحف قطر الإسلامي بالدوحة في مجملها كفاحاً، هذه المؤسسة الفنية والثقافية الفتية والرائدة في مجالها، فلقد انطلقت جذلان فرحاً بتلك النسخة من ذلك المجلد الذي يحوي صوراً لمجموعة متنوعة ومنتقاة بعناية من تلك الكنوز الثمينة، ولسان حالي يردد مع امرئ القيس:"ألا إلا تكن إبلٌ فمعزى... الخ". على أن الأمل لا يزال يحدوني في أن تتاح لي الفرصة لزيارة هذا المتحف بالدوحة، والطواف على مختلف أقسامه وأجنحته في المستقبل إن شاء الله. أما التحفة الأثرية التي نحن بصددها هاهنا، فقد نُشرت صورتها بصفحة 51 من المجلد، بينما نشر التعليق عليها بصفحة 50 منه. وتلك التحفة المعنية هي عبارة عن طبق أو صحن مصنوع من الفخار المطلي بطبقة مزججة شفافة بيضاء اللون، بياضاً مشوباً بصفرة باهتة كدرة تجعل لونه أقرب إلى ما يعرف باللون البطاطي أو"البيج"كما يقال الآن، بما يجعل شكل ذلك الطبق مثل أشكال الأطباق الخزفية أو الصينية المعاصرة. هذا الطبق الأثري مصدره نيسابور أو سمرقند، ويعود تاريخ صنعه إلى القرن العاشر الميلادي المقابل للقرن الرابع الهجري، أي أن عمره الآن أكثر من ألف عام. وأما بيت الشعر العربي القديم الذي أومأنا إليه في عنوان هذا المقال، فهو البيت الشهير الذي يتضمن حكمة سائرة في ذم التردد والتسويف، وتفويت فرصة اتخاذ القرار في الوقت المناسب وما يعقب ذلك من حسرة وندم عادة، هو قول الشاعر: وعاجزُ الرأي مضياعٌ لفرصته حتى إذا فات أمرٌ عاتب القدرا نُقش هذا البيت بخط كوفي جميل، بمداد أسود اللون، على كامل استدارة حافة الطبق العلوية. لقد خطر لي بعد تأملي لصورة ذلك الصحن البيجي، أو تلك التحفة الأثرية الرائعة، وخصوصاً لجهة ما تضمنته من نص أدبي يعتبر من آثارنا الأدبية السائرة، خطر لي أن من الجائز أن نفترض أن بعض الشواهد واللقى الآثارية من هذا النوع التي تعود إلى مختلف حقب التاريخ العربي والإسلامي المتعاقبة ? إذا ما وجدت وتم الكشف عنها بالطبع ? فلربما تكون من أبلغ الأدلة، وأقواها مصداقية على توثيق العديد من النصوص والمرويات، فضلاً عن أن من شأنها أن تلقي المزيد من الأضواء الكاشفة على تلك النصوص والروايات، مما سيساعد بصفة خاصة على استكناه جملة من أبعادها ومحمولاتها ودلالاتها الجمالية والتاريخية والاجتماعية والفنية. وهكذا ربما سيجيء اليوم الذي سوف يُعثر فيه في مكان ما على مقربة من ضريح أبي العلاء المعري ببلدة معرة النعمان بسورية، على اللوحة التي قيل إنه قد أمر أن يُنقش فيها بعد موته ومواراته الثرى قوله: هذا جناه أبي علَي وما جنيتُ على أحدْ أو يأتي اليوم الذي يُعثر فيه في مكان ما في العراق على واحد من الأكواب المنقوش على أسفلها صورة كسرى انوشروان، وفي جنباتها صورة لغزلان يتربص جماعة من الصيادين لاقتناصها بالسهام، والتي شرب فيها الشاعر أبو نواس وندمانه بنت الكرم في ذات ليلة من ليالي بغداد، ووصفها بقوله: تُدارُ علينا الراحُ في عسجدية حبتها بأنواع التصاوير فارسُ قرارتها كسرى وفي جنباتها مهىً تدريها بالقسي الفوارسُ على أن ما نود مناقشته حقيقة في هذا المقام، هي هذه العبارة التي اقتبسناها مجتزأة من التعليق على صورة الطبق النيسابوري أو السمرقندي المذكور، والمنشور على الصفحة رقم 50 من المجلد:"... على الطبق عبارة منقوشة من قول يحي بن زياد: وعاجز الرأي مضياع لفرصته حتى إذا ما فاته أمر عاتب القدر... الخ"أ ه فالواضح أن النص المنقوش على الطبق هو بيت من الشعر العربي منظوم على بحر البسيط، وهو قول الشاعر: وعاجزُ الرأي مضياعٌ لفرصته حتى إذا فات أمرٌ عاتب القدرا وليس مجرد"عبارة"كما جاء سهواً في التعليق. ذلك أن لفظة"عبارة"هذه تحيل عادةً إلى النصوص النثرية. ثم إن هنالك خطأين قد وردا في نقل النص الأصلي لهذا البيت كما يظهر من هذا التعليق وهما: إثبات المعلق لعبارة"ما فاته"بإضافة ما في أوله وحرف الهاء في آخره، بدلاً من الفعل الماضي"فات"فحسب. إذ بإقحام عبارة"ما فاته"هذه، يغدو البيت مختلاً من حيث الوزن والعروض، بخلاف الفعل"فات"المثبت فعلاً وبوضوح في متن النص الأثري نفسه. وأما الخطأ الثاني فهو عدم إثبات المعلق لحرف اللف الأخير من كلمة القدرا التي رسمها القدر ? هكذا ? بدون ألف، فكأنه قد اعتبر أنها بالفعل مجرد عبارة نثرية والسلام، ولم يدر بخلده ? كما يبدو ? أنه بيت من الشعر. وقد تلفت ملاحظتنا هذه الانتباه إلى ضرورة إشراك بعض من يتمتعون بالحس الأدبي والفيلولوجي، والبصر بمختلف الأجناس الأدبية في التراث العربي قديمه وحديثه في المهام المتعلقة بإخراج مثل هذه المصنفات العلمية والأدبية والفنية العظيمة الفائدة والأهمية. أما البيت ذاته: وعاجز الرأي مضياعٌ لفرصته حتى إذا فات أمرٌ عاتب القدرا فإن الراجح أن قائله هو أبو الفضل الرياشي، وليس يحي بن زياد كما جاء في التعليق المصاحب لصورة الطبق المعني المنشورة بالمجلد. أما يحي بن زياد الذي نسبت إليه الفقرة التي اقتبسناها مجتزأة أعلاه من المجلد هذا البيت السائر، فالراجح أن المقصود به هو: أبو زكريا يحي بن زياد الشهير بلقبه"الفراء"144 ? 207 ه، أي كان إمام أهل الكوفة وأعلمهم بالنحو أي كانت له فيه مدرسة أو مذهب قائم بذاته، فضلاً عن تبحره الموسوعي في علوم اللغة والشعر والأدب، وسائر فنون التراث العربي والإسلامي التي كانت شائعة في عصره. وأما أبو الفضل الرياشي الذي تعزو إليه سائر المصادر التي وقفنا عليها هذا البيت، فهو: أبو الفضل بن الفرج الرياشي، المتوفى مقتولاً في سنة 257 ه أثناء ثورة الزنج الشهيرة التي اندلعت بالبصرة، فقد كان هو الآخر، من كبار النحاة وأهل اللغة، والرواية للشعر والعلم بأيام العربز وقد وصفه ياقوت الحموي في كتابه:"معجم الأدباء"بأنه ثقة في ما يرويه. هذا، ويخبرنا أصحاب السير والتراجم الأقدمون أن أبا الفضل الرياشي هذا، كان قد أخذ العلم والأدب عن الأصمعي وأبي عبيدة معمر بن المثنى، بينما قرأ عليه المازني النحو، كما أخذ عنه أبو العباس المبرد وابن دريد، وروى عنه ابن أبي الدنيا وإبراهيم الحربي. * سفير السودان في باريس